مسلم بن عقيل عليه
السلام
ولادة مسلم عليه السلام:
لقد أشرق الكون بهذا الميلاد المبارك، وتأرج فيه بنجره الشّذيّ يوم برز الى عالم
الشهود بعد تقلب متطاول، بين أصلاب طاهرة، وأرحام زاكية، غير مدنسة بدرن الكفر، ولا
موصومة بأدناس الجاهلية الأولى في نسب متصل بنسب صاحب الرسالة ـ صلى الله عليه وآله
ـ وحسب موروث من " شيخ الأبطح " الآنف ذكر شرفه وشرف بيته الرفيع وبينهما حلقة
الوصل مثل عقيل الذي تقدم وصفه وذكر منزلته من العظمة والإيمان والشرف.
ولقد تلقى عقيل دروسا ضافية من صاحب الدعوة الالهية وأخيه الخليفة على الأمة عند
انقضاء أمد الوحي المبين، وفيها ما يجب على الرجال من اختيار المحل الصالح لحمل
تلكم النطف الزاكية وفي جملتها التحذير من منابت السوء المفسر على لسان المشرع
الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ بالمرأة الدنيئة الأصل لكون الوراثة حاكمة بطبعها
الأوليّ على الفضائل المطلوبة من الولد اللهم إلا مع مزاحمة الكسبيات لها وظهورها
عليها كما هو المشاهد من الرجال الذي اتصلوا بالذوات المقدسة فحصل لهم بواسطتها
اسمى الخصال الطيبة وفازوا بالرضوان الأكبر.
ومن المقطوع به أن عقيلا مع حيطته بأنساب العرب ومواقع المآثر والمحازي وايمانه
بتلكم الدروس الراقية لم يختر لنطفته إلا محلا لائقا تتعداه كل غميزة وتقترب منه
الفضيلة ولم يستهسل أن ينبز عقبه بما لا يلائم نسبه الوضاح وبيتهم المنيع كما كان
يقال في كثيرين من أهل عصره وذرياتهم.
ويشهد له وقفة أولاده بمشهد الطف يوم التطمت أمواج الضلال وتحزّبت عصب الشرك على
سيد شباب أهل الجنة وقطعوا عنه خطوط المدد وحالوا دون الوسائل الحيوية حتى الماء
المباح لعامة الحيوانات، يريدون بذلك استئصال شأفة النبوة فكتبوا بدمائهم الزاكية
اسطرا نورية على جبهة الدهر تقرؤها الأجيال المتعاقبة، ويتعرفون منها مناهج موتة
العز وأن الحياة مع الظالمين ذميمة.
فظهر مسلم ـ عليه السلام ـ بين هذه وتلك ألقا وضاءا للحق وشخصية بارزة للدين والهدى
متأهلا لحمل أعباء النيابة الخاصة عن حجة الوقت ولذلك اختاره لها سيد الشهداء ـ
عليه السلام ـ من بين ذويه وحشده الأطايب.
ومن هذا الإستنباط يعلم طهارة " أمه " عن كل ما تغمز به النساء وأنها متحلية
بالمفاخر وإن لم يعطها التأريخ حقها كما لم يعط حق ولدها المعظم الثابت له.
نعم للتأريخ والمؤرخين شغل شاغل بذكر أخبار القيان والمغنين وسرد روايات أهل
الخلاعة والمعازف عن إثبات أحاديث سروات المجد وقادة الإصلاح من بني هاشم.
وهل النقمة ههنا على الكتاب أو ظروف التدوين أو السياسات القاسية أنا لا أدري،
ولهذا كله خفى علينا يوم ولادتها وشهرها وسنتها، وكان من الصعب جدا تحديدها وكلما
يقال فهو تقريب واستحسان ولا يغني من الحق شيئا.
أمه عليه السلام:
إن غموض التعريف عن أم مسلم بأجلى المظاهر، أوقع الباحث في حيرة السؤال عن اقتران
عقيل منها، هل كان بالعقد أم بملك اليمين، وأنها حرة أم جارية ؟، والعتب في ذلك على
المؤرخين الذين أهملوا الحقائق مع تحفظهم على أمور تافهة لايقام لها وزن، وان من
الجدارة التعريف بنواحي هذا الرجل العظيم الذي دخل الكوفة وحده بلا عدة ولا عدد،
فدوّى أرجاءها بصرخته الحسينية في وجه المنكر، وأقلق فكر الممثل للزعامة الأموية في
الشام ولعل من هذا الإغفال يستطيع الباعث الجزم بأن ما يلم " بابن عقيل " كان على
أبعد حد من الفضائل والفواضل سواء من ناحية أمه وأبيه أو من بيته الرفيع فانه لو
كان هناك طريق للغمز فيه ولو من جهة تأريخ امه لتذرع به المنحرفون عنه وعن سلفه
الطاهر كما هو ديدنهم فيمن ضمهم هذا البيت أو انضوى إلى رأيتهم ومشى على ضوء
تعاليمهم.
وقيل: أم مسلم " عربية حرة، ولعل ترك ابن زياد التعرض لها في ما جرى بينه وبين مسلم
من المحاورات يشهد له، فإنه كان بصدد اسقاط مسلم عن أعين الناس فنسب له أشياء يقطع
بأنه لم يأت بها أصلا فلو كانت أمه جارية لنبزه بها كما فعل هشام بن عبد الملك مع
زيد الشهيد ـ رضوان الله عليه ـ إذ قال له: زعمت أنك تطلب الخلافة ولست هناك وأنت
ابن أمة، فقال له زيد: إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم
إسماعيل أمة فلم يمنعه أن كان نبيا وأبا لخاتم الأنبياء ـ صلى الله عليه وآله.
نشأته عليه السلام:
لقد عرفت فيما قدمناه من صفة بيت أبي طالب ومبلغ رجالاته من العلم والمعارف الإلهية
وأنهم على الأوضاع والغرر اللائحة في أنسابهم واحسابهم لا تعدوهم الفضائل العصامية
من علم وحكمة وأخلاق وبلاغة وأدب وشجاعة وفروسية إلى مآثر جمة ازدانت بسروات المجد
من بني هشام، وأن كلام منهم أمة واحدة في المكارم جمعاء.
وإن من قضاء الطبيعة وناموس البيئة أنهم يمرنون وليدهم ويربون الناشئ منهم على ما
تدفقت به أوعيتهم، فلا يدرج الطفل إلا والحنكة ملء إهابه، ولا يشب الصغير إلا وهو
محتو لفضيلة المشايخ، واذا التقيت بالرجل هكذا بين فواضل وفضائل، ومآثر ومفاخر، ولا
سيما ان من جبلة رجالات البيت تغذية ناشئهم بما عندهم من آلاء وتحنيكه بنمير
مكارمهم وإروائه بزلال من حكمهم البالغة، وعظاتهم الشافية، وتعاليمهم الراقية،
فقضية قانون التربية الصحيحة أن يكون الولد إنسانا كاملا.
نعم، هكذا أرباب الفضائل من آل أبي طالب لا يروقهم في صغيرهم إلا ما يروقهم في
الأكابر، ولا يرضيهم ممن يمت بهم إلا أن يزدان به منتدى العلم ودست الإمارة، ويبتلج
به صهوة الخيل ومنبر الخطابة، وأن يسير مع الركب ذكره ومع الريح نشره لكي يقتدى به
في المآثر، ويقتص أثره في الأخلاق.
وهذا الذي ذكرناه إنما هو مرحلة الإقتضاء التربوي، ويختص بما اذا صادق قابلية
المحلّ، وعدم المزاحمة بموانع خارجية تسلب الأثر من كل هاتيك الموجبات من بيئة
وبيئة أو مجالس سوء أو شره ثابت، فإن هذه الأمور تستوجب التخلف عن ذلك الإقتضاء كما
نسب إلى شذاذ من العلويين، فإنه على فرض صحة النقل لا يصار إليها إلا في الموارد
المفيدة للعلم بخروج الناشئ عن ذلك الناموس.
وأما داعية الحسين ـ عليه السلام ـ وسفيره الى العراق فكانت لياقته الذاتية، وتأهله
للفضائل، وتأثره بتلك التربية الصحيحة، ونشوؤه في ذلك البيت الممنع، وتخرجه من كلية
الخلافة الإلهية قاضية بسيره مع ضوء التعاليم المقدسة، فأينما يتوجه إلى ناحية من
نواحي هذا البيت لا يقع نظره إلا إلى أستاذ في العلم أو مقتدى في الأخلاق أو زعيم
في الدين أو بطل في الشجاعة أو إمام في البلاغة أو مقنن في السياسة الآلهية.
فكانت نفس مسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ تهش الى نيل مداهم منذ نعومة الأظفار كما
هو طبع المتربى بهذا البيت، ففي كل حين له نزوع الى مشاكلة كبرائهم، وهذه قاعدة
مطردة، فإنك تجد ابن العالم يأنف عن أن يعد في أبناء العامة، وابن الملك يكبر نفسه
إلا عن خلائق والده، وولد الزعيم يترفّع عن مشاكلة رعاياه، فكل منهم يرمي الى ما
يرفعه عن غرائز الطبقات الواطئة.
إذا فما ظنك بمسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ الذي هو أول من وقع بصره عليه عمه أمير
المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ وابناه الإمامان إن قاما وإن قعدا (31) ـ صلوات الله
عليهما ـ، ورجالات السؤدد والخطر من آل عبدالمطلب وسمع أخبار الغابرين من أهل بيته
في المفاخر والمآثر، فهل يمكن أن يكون له هوى إلا مع الفضيلة أو نزوعا إلا الى
المحامد ؟ نعم نشأ مسلم مع العلم، والتقوى والبطولة، والهدى، والحزم، والحجى،
والرشد كما شاء الله سبحانه حتى أحب لقاءه يوم سعادته بشهادته.
ولقد كان من أهم ما يتلقاه مسلم ـ عليه السلام ـ من أكابر قومه مناوأة البيت الأموي
أضداد الفضيلة، وأعداء الدين، وحضنة الجاهلية الأولي، وناشري ألوية الوثنية،
والدعاة الى كل رذيلة بأعمالهم، وأقوالهم، ولهذه كانت تعد تلك المباينة من
الهاشميين لهم من أسمى مناقبهم الحال كان " داعية السبط الشهيد ـ عليه السلام ـ "
وارثا لهذه الظاهرة بأتم ما لها من المعنى.
ومما لا يستسهل العقل قبوله أن يكون ابن عقيل ـ عليه السلام ـ متزلفا الى واحد ممن
ناوأ آباءه الأطائب أو مجاملا له فيجر الرذيلة الى قومه وتفوته الشهامة الهاشمية
والإباء الموروث له والشمم المتأصل كيف وانه:
درة تـاج الفضـل والكرامـة * قـرة عيـن المجـد والشهامة
أول رافع لرايــة الهــدى * خص بفضل السبق بين الشهداء
كفاه فضلا شـرف الرسالــة * عن معدن العـزة والجلالة
* الشهيد
مسلم بن عقيل / العَلامَةُ المَرحُوم عَبْدُ الرَّزاق المُوسَوي المقُرَّم ص38_41.
|