مصرع
علي الأكبر
وأوّلُ
مَنْ تقدَّمَ عليُّ بنُ
الحسينِ الأكبرُ عليه
السلام. ولمّا عزَمَ على
القتالِ، وأقبلَ مستأذِناً
من أبيهِ، نظرَ إليه
الحسينُ عليه السلام
نَظَرَ آيِسٍ منه، وأرخَى
عينَيْهِ بالدموعِ، ورفعَ
سبابتيه نحوَ السماءِ
وقالَ:
"اللهمَّ اشهَدْ على
هؤلاءِ، فقد بَرزَ إليهِم
أشْبهُ الناسِ خَلْقاً
وخُلُقاً ومَنْطقاً
برسولِك محمَّد ٍصلى الله
عليه وآله وسلم، وكنَّا
إذا اشتقْنَا إلى رؤيةِ
نبيِّكَ نظرْنَا إليه،
اللهمَّ امنعْهُمْ بركاتِ
الأرضِ، وفرِّقهُمْ
تفريقاً، ومزِّقْهُم
تمزيقاً، واجعلْهُم طرائقَ
قِدَداً، ولا تُرْضِ
الوُلاةَ عنهم أَبَداً،
فإنَّهم دَعَوْنا
ليَنْصُرونا، فعدَوْا
علينا يُقاتِلُونَنَا".
وصاحَ عليه السلام بعُمرَ
بنِ سعدٍ:
"ما لكَ يابنَ
سعدٍ، قطَعَ اللهُ
رَحِمَك كما قطعْتَ
رَحمِي ولم تحفَظْ قرابتي
من رسولِ الله ِصلى الله
عليه وآله وسلم".
ثمَّ تلا قولَه تعالى:
﴿إنّ
اللهَ اصطفَى آدمَ ونوحاً
وآلَ إبراهيمَ وآلَ
عِمرانَ على العالَمينَ
ذُرّيةً بعضُها من بعضٍ
واللهُ سميعٌ عليمٌ﴾1.
ولَمّا عَزَمَ على الحربَ،
عزَّ فِراقُه على
مُخَدَّراتِ الإمامةِ،
فأَحَطْنَ بهِ، وتعلَّقنَ
بأطرافِه، وقُلنَ له:
ارحَمْ غُربتَنا، فَلَا
طاقةَ لنا على فِراقِكَ.
فلمْ يَعبأْ بِهِنَّ. ثمَّ
تَوَجَّهَ نحوَ القومِ،
وشدَّ عليهم شَدّةَ الليثِ
الغَضبانِ، وهو يقولُ:
أنا عليُّ بنُ الحســينِ
بـــنِ علــي نحنُ وبيـتِ اللهِ أوْلـى
بالنبي
تاللهِ لا يَحْكُمُ فينا
ابـــنُ الدَّعِــي
أَطـعنُكم بالرُمـحِ
حتَّى يَنْثَـني
أَضرِبُكُمْ بالسيفِ
أَحْمي عن أبي ضَـرْبَ غُـلامٍ هاشــميٍّ
عَلَـوي
ولَمْ يَزَلْ يحمِلُ على
المَيمنةِ ويُعيدُها على
المَيسَرةِ، ويغوصُ في
الأوساطِ حتَّى قتلَ
مِنهُم مَقتلةً عظيمةً،
وضجَّ الناسُ منْ كَثرةِ
مَن قُتِلَ مِنْهم.
ولَمّا اشتدَّ به العطشُ،
رَجَعَ إلى أبيهِ الحسينِ
عليه السلام قائلاً: يا
أبَهْ، العطشُ قدْ
قَتَلَني، وثِقلُ الحديدِ
قدْ أجْهدَني، فَهَلْ إلى
شُربةِ ماءٍ من سبيلٍ
أتقوَّى بها على الأعداءِ؟
يبــويه شــربة امــيّه
الكبدي
اتقوى ورد للميـــدان
وحــدي
يبويه انفطر قلبي وحق جدي العطش والشمس والميدان
والحر
فأجَابَه الحسينُ عليه
السلام: "قاتِلْ قليلاً،
فما أسرَعَ ما تلقى
جَدَّك رسولَ اللهِصلى
الله عليه وآله وسلم،
فيَسقيكَ بكأسِهِ الأوفى
شُربةً لا تَظمأُ بعدَها
أبداً".
فرَجَعَ عليٌّ الأكبرُ
إلى المَيدانِ وجعلَ
يقاتلُ أعظمَ القتالِ
فأكثرَ القَتلَ في صفوفِ
الأعداء.
فقالَ مُرّةُ بنُ مُنقِذٍ
العَبْديُّ: عَليَّ آثامُ
العربِ إنْ لم أُثكِلْ به
أباهُ، فطعنَه بالرمحِ في
ظهرهِ، وضربَه بالسيفِ
على رأسِه ففَلَقَ
هامَتَهُ، وضربَه الناسُ
بأسيافهِم، فاعتنقَ فرسَه،
فاحتمَلهُ الفرسُ إلى
مُعسكَرِ الأعداءِ،
فجعلوا يضرِبونهُ
بأسيافهِم، فهَوَى إلى
الأرضِ منادياً: عليكَ
منِّي السلامُ أبا عبدِ
اللهِ، هذا جَدِّي رسولُ
اللهِ قد سَقاني بكأسِهِ
الأَوفى شُربةً لا أظمأُ
بعدَها أبداً، وهوَ يقولُ
لكَ: العجلَ، العجلَ، فإنّ
لك كأساً مَذْخورةً.
ثمَّ شَهِقَ شَهقةً كانت
فيها نفْسُه وفارقتْ
روحُه الدنيا.
فجعلَ الحسينُ عليه
السلام يتنفّسُ
الصُّعَداءَ، وصاحَ بأعلى
صوتهِ:
و"اوَلداه"،
فتصارختِ النساءُ،
فسَكَّتَهنَّ الحسينُ
عليه السلام، وقالَ:
"إنّ البُكاءَ أمامَكُنّ".
وحمَلَ على القومِ
ففرَّقَهم، وأقبلَ إلى
ولدهِ مسرعاً، وهو يقولُ:
"ولدي عليّ، ولدي عليّ"
حتَّى وصلَ إليهِ، ورمى
بنفسهِ عليهِ، وأخذَ
رأسَه فوضعَه في حِجرِهِ،
وجعلَ يمسَحُ الدمَ
والتراب عن وَجههِ،
واعتنقَهُ واضعاً خَدَّهُ
على خَدِّهِ، وهو يقولُ:
"قَتَلَ اللهُ قوماً
قتلوكَ يا بُنيَّ، ما
أَجرَأَهُمْ على الرحمنِ،
وعلى انتهاكِ حُرْمةِ
الرسولِ صلى الله عليه
وآله وسلم! على الدّنيا
بعدَكَ العَفا يا بُنيّ!
أمَّا أنتَ
فقدِ
استرحْتَ من كُرَبِ
الدُّنيا ومِحَنِها، وقد
صِرْتَ إلى رَوْحٍ
ورَيحانٍ، وبَقِيَ أبوكَ،
وما أسرَعَ لُحوقَهُ بكَ".
وانهملَتْ عيناهُ بالدموعِ.
قعد عنده وشافه مغمّض
العين
ابدمه سابح مترّب الخدين
متواصل ضرب والراس نصّين
حنه ظهره على بنيّه وتحسر
يبويه گول منهو الضرب
راسك
ينور العين من خمّد
انفاسك
يبويه من نهب درعك اوطاسك
يروحي اشلون أشوفك معفّر
يبويه من عدل راسك ورجليك
و من غمّض عيونك واسبل
ايديك
ينور العين كل سيف الوصل
ليك
قطع قلبي
ولعند حشاي سدّر
ثمَّ قالَ لفِتيانِهِ منْ
بني هاشمٍ:
"احْمِلُوا
أخاكُم".
فحملُوهُ منْ مَصْرَعِهِ،
وجاؤوا بهِ إلى الفُسطاطِ
الذي يُقاتِلُونَ أمامَه،
فخرجَتْ زينبُ بِنْتُ عليٍّ
عليه السلام مُسْرِعةً
وخلفَها النساءُ والأطفالُ،
وهِيَ تُنادِي: يا حبيباه،
يابن أُخَيَّاه.
وانكبَّتْ عليهِ، فبكَى
الحسينُ عليه السلام
رَحْمةً لِبُكَائِها،
وقالَ:
"إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ
راجعونَ"...
وقامَ وأخذَ بيَدِها
وردَّها إلى الفُسطاط.
* المصيبة
الراتبة. نشر جمعية
المعارف الاسلامية
الثقافية. الطبعة
التاسعة.
1- آل عمران
: 33- 34.
|