مادة الخطيب في فقرة التخلص
أكدنا في درسنا السابق على أهمية الاطلاع على
السيرة الحسينية بحيث نستطيع أن نصوغ معادلة
مفادها: كلما كان الخطيب مطَّلعاً على تفاصيل أدق
كان أقدر في اختيار أسلوب التخلّص المؤثّر
والنافع.
وكمثال: فإن أحد أساتذة المنبر الحسيني وهو
المرحوم الشيخ هادي النويني، كان قد طرح عنواناً
لمحاضرته وهو الآية الكريمة
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن
يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ
خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ
فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾1. وكان رُبطهُ
وتخلّصهُ موفقاً حينما أنهى محاضرته بمقطع من
الحوار الذي جرى بين زهير بن القين رضوان الله
عليه والشمر يوم عاشوراء، حينما قال الشمر لزهير:
إني أراك تعبد الله على حرف.. فأجابه زهير: إني
والله أراك تعبد الله على سبعين حرفاً...
فلولا أن الخطيب كان متابعاً لهذه الجزئية في هذا
الحوار لما اهتدى إلى هذا التخلّص.
وطرح الشيخ أحمد الوائلي في مجلس قام به المختار
الثقفي في قضية أخذ ثأر شهداء كربلاء، والأجواء لا
مجال فيها للبكاء لأنه فيها انتصار لأهل البيت
عليهم السلام من قاتليهم وظالميهم.. ولكنه وجد في
قصة أخذ الثأر هذا مقطعاً سجّل حالة تأمل وحزن بدت
على وجه المختار لما جيء إليه برأس عمر بن سعد
ورأس ابنه حفص فقال: أهذا برأس الحسين وهذا برأس
علي الأكبر؛ وهكذا وجد هذا الجسر الذي
انتقل منه إلى كربلاء، وعاد من خلاله بالمجلس إلى
أجواء الحزن.
وهكذا فإن الاطلاع الدقيق والتفصيلي على أحداث
كربلاء، يمكّن الخطيب من اختيار التخلّص الناجح
والمؤثر في عين الوقت.
إن هذا الاطلاع هو مادة الخطيب في فقرة التخلّص.
- الاطلاع على تجارب شيوخ المنبر الحسيني
وإبداعاتهم في هذه الفقرة. لأن هناك أناس مميزون
في كل حقل من حقول العلم والمعرفة والأدب وأنواع
التخصّصات، فكذلك نجد في عالم المنبر الحسيني،
خطباء مميزون. وبعض هؤلاء الخطباء برز تميّزهم
وبشكل رائع في فقرة التخلّص... فقد يكون بعض
الخطباء غير متميزين في محاضراتهم ولكنهم متميّزون
في حسن نقل المستمع من أجواء المحاضرة
إلى أجواء المصيبة.
والاطلاع إما مباشرة، من خلال حضور مجالس الخطباء
المشهورين أو الاستماع إلى تسجيلات مجالسهم.. حيث
على الخطيب المبتدئ أن يسائل نفسه كيف سينتهي هذا
الخطيب من محاضرته وإلى أي
جانب من جوانب كربلاء سيعرّج!
فليحاول التوقّع، ثم ليقارن بين توقعه وبين ما
يسمعه من الخطيب.
وأما أن يكون الاطلاع بصورة غير مباشرة، من خلال
الكتب والمصنّفات التي اهتمّت بتسجيل بعض اللقطات
التي يمكن أن توظّف توظيفاً رائعاً في التخلّص.
ولعلّ أشهر كتاب يمكن أن يعين في هذه المرحلة هو
كتاب (الخصائص الحسينية) للعلامة الخطيب الشيخ
جعفر التستري رحمه الله. وهو كتاب يحظى بأهمية
خاصة عند خطباء المنبر الحسيني. كما يمكن
الرجوع إلى بعض الكتب الأخرى التي صيغت على شكل
مجالس يتم في آخر كل مجلس ربطه بحدث من أحداث
كربلاء، مثل كتاب (شجرة طوبى) للمرحوم الشيخ محمد
مهدي الحائري ففيه أمثلة كثيرة على
التخلّص.
هذه هي أهم النقاط التي يمكن من خلالها أن يوفّق
الخطيب للوصول إلى (تخلّص) مناسب ودقيق ومؤثّر.
ومن الجدير بالذكر، أن (التخلّص) كان من الفقرات
الفنية التي رافقت تطوّر المنبر في مرحلته الأخيرة
(راجع مراحل تطور المنبر الحسيني). ويُذكر أن أول
خطيب حسيني أخترع أسلوب التخلّص في المنبر
الحسيني، كان الخطيب المشهور الشيخ كاظم سبتي رحمه
الله (راجع كتاب: ما في النجف وحاضرها للشيخ جعفر
محبوبة).
ويُطلق على التخلّص في المجالس الحسينية في العراق
والخليج والمنطقة العربية في إيران، مصطلح
(الكَريز) بالكاف الأعجمية، وهي كلمة فارسية الأصل
معناها: النُقلة.
وفي نهاية فقرة التخلّص لا بد من التأكيد على ما
يلي:
النقطة الأولى: على خطيب المنبر الحسيني النابه،
أن يختار (التخلّص) المناسب مع ظروف مجلسه ومستوى
الحاضرين الثقافي والاجتماعي، لأنه قد يكون
(تخلّص) رائع في ظرف ما غير موفقٍ في ظرفٍ
آخر.. فالمسألة راجعة إلى اختيار الخطيب وحسن
انتقائه.. وكأمثلة:
أ- حضر أحد الطلبة الجدد، مجلساً في مخيّم الإمام
الحسين عليه السلام بكربلاء ليلة الحادي عشر من
المحرّم.. وهذا المجلس وبهذه الظروف المكانية
والزمانية، يكون الدمع فيه منساباً والقلوب فيه
منفعلة مع
مصائب الطف. ولما ارتقى الخطيب المنبر بقي ساكناً
مدةً حتى الفت أذهان الحضور، فسكتوا واصغوا إليه
ينتظرون ما هو سبب سكوته، هل نسي الشعر أو المصيبة
أم ماذا؟ وإذا بهذا الخطيب يقرّب أنفه من
الميكرفون وهو يصد أصوات الشمّ وكأنه يشمّ رائحة
ما.. فقال: إني أشم رائحة حريق وأشياءً محترقة..
وحينما أراد بعض الحاضرين أن يعرف مصدر رائحة
الحريق هذه بادرهم الخطيب: لعلّ هذه من بقايا
خيام الحسين المحترقة هذا اليوم هنا في المخيّم
فالتهب المجلس بكاءً وصراخاً وحنيناً...
ثم صادف أن التزم هذا الخطيب المبتدئ قراءة مجالس
لليالي عاشوراء، في السنة القادمة وعند قرية من
القرى حيث تُبنى بيوتهم من القصب وجذوع النخل
والحصر، ويعتبر الحريق عندهم كارثة حقيقية،
رغم ذلك فقد قرّر هذا الطالب أن يسرد نفس ما جرى
من ذلك الخطيب في مخيم الحسين عليه السلام
بكربلاء... ولما أخذ يشمّ ثم يقول إني أشمّ رائحة
حريق وإذا بالناس ينهضون خائفين مذعورين، حذر
الحريق المزعوم هذا حتى تركوا المجلس وذهب كل رجل
ليطمئن على بيته السريع الاشتعال!!
إذن ليس كل (تخلّص) يكون مناسباً مع اختلاف الظروف
الزمانية والمكانية.
ب- كان الخطيب الحسيني الشهير الشيخ جواد القسّام
رحمه الله مدعوّاً لقراءة مجلس في وفاة والدة أحد
رؤساء العشائر المشهورين أيضاً واسمه مبدر آل
فرعون... واحتشد المجلس وكان الخطيب على منبره
في صدر المجلس بينما ابن المتوفاة في آخره فأخذ
الخطيب يسأله كيف توفيت الوالدة؟ وظروف الوفاة. ثم
تابع أسئلته متى توفيت الوالدة؟ فأجابه: لقد توفيت
والدتي عصراً، فبادره الخطيب سائلاً: ولماذا لم
تدفن والدتك ليلاً؟. فقال ابنها: كيف يمكن أن تدفن
أميّ ليلاً، وأنا ولدها رئيس العشيرة المعروف،
والشخصية الاجتماعية البارزة، نعم لا يمكن دفنها
حتى تجتمع العشائر وتسمع بذلك القبائل وتأتي
الوفود
ويجتمع الأرحام، حتى شيّعناها نهاراً مع الاهازيج
العشائرية تشييعاً يليق بها وبي وبعشيرتي!!
هذا والناس يستمعون هذا الحوار، وهم لا يدرون هدف
الخطيب من هذا الحوار، وإذا بالخطيب يرفع صوته
صارخاً وناعياً:
ولأي الأمور تُدفن ليلاً |
بضعة المصطفى ويُعفى
ثراها |
أم من بنت من حليلة من |
ويلٌ لمن سنّ ظلمها وآذاها |
فانفجر المجلس بالبكاء بهذا التخلّص الفني الرائع
في ربط ظروف دفن هذه المرأة مع ظروف دفن سيدة نساء
العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام.
ولكن صادف أن أحد الخطباء البسطاء كان حاضراً هذا
المجلس فأعجب بهذا التخلّص. وذات يوم توفيت والدة
أحد الفلاحين الفقراء، فدعي للقراءة في مجلس قليل
الحضور محدود التواجد..
وإذا بهذا الخطيب يحاول محاكاة الشيخ جواد القسّام
وتقليده في مجلسه المشهور آنفاً.. فبدأ يخاطب ذلك
الفلاح الفقير ... كيف توفيت الوالدة؟ وما هي ظروف
وفاتها؟...إلخ.
ولكن صادف أيضاً، أن هذا الفلاّح المسكين كان
حاضراً ذلك المجلس المشهور، وإذا به يقاطع الخطيب
بلغة لا تخلو من استهجان وتهكّم! مولانا إقرأ
مجلسك ولا تضخّم الموضوع، فلا أنت كالشيخ ابن
قسّام، ولا أنا كرئيس العشيرة مبدر ولا والدتي
كوالدته!! فضحك الناس وأسقط ما في يدي الخطيب وفشل
مجلسه وولّى هارباًپ.
النقطة الثانية: إن هناك مجتمعات عريقة في إقامة
المجالس الحسينية، تكوّنت عندها على تراكم الخبرات
والاستماع لشيوغ الخطباء واستمرارية المجالس لعدة
مناسبات وبمختلف الظروف، تكونت خبرة
ونشأ ذوق ونمى حسٌ مرهف، يتجاوب مع الخطيب ويتفاعل
معه.. فتسهل بذلك مهمة الخطيب وتكون فرص النجاح
لديه أكثر.. ومن جملة تلك التسهيلات أن المستمع
يفهم مراد الخطيب وقصده والنقطة التي
يريدها.. ولكن الأمر لا يكون كذلك في مجتمع أو
بيئة قليلة المجالس محدودة الخطباء جديدة العهد
بها، فما يكون تخلصاً نافعاً في مجلس قد يكون نافع
في مجلس آخر لا يمتلك عراقة الأول وقدمه وخبرته.
وكمثل على ذلك... فقد ارتقى أحد كبار الخطباء وهو
الشيخ عباس قوزي المنبر في يوم عاشوراء، وهو
بحذائه مما أثار استغراب الحاضرين واستهجانهم،
وارتفعت همهماتهم فيما بينهم، كيف يرتقي
الخطيبُ منبر سيد الشهداء بحذائه وفي يوم عاشوراء؟
وإذا بذلك الخطيب يلتفت إليهم ليقول: استغربتم
ارتقائي المنبر بحذائي؟ والمنبر ما هو إلاّ خشب
وقماش أسود، فما تقولون لو رأيتم الشمر يطأ صدر
الحسين؟.. وارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب..
إن هذا التخلّص، الرائع قد لا يكون مناسباً في
بيئة أخرى، بل قد لا يبكي الناس في أكثر المجتمعات
الحديثة حالياً.
النقطة الثالثة: إن مجالس ليالي عاشوراء، وكما سبق
بيانه، تنتهي بمصائب معروفه لكل ليلة من الليالي،
وبالتالي فإن نفسية روّاد المجالس مهيأة للاستماع
إلى مصيبة خاصة، وبالتالي فهم يتوقعون أن يكون
التخلّص لكل مصيبة محدّداً مسبقاً، وهذه الحالة لا
تلغي إبداع الخطيب في اختراع طرق تخلص متنوعة
وجديدة.
وما يقال عن ليالي عاشوراء، يقال عن المجالس التي
تعقد في مناسبات وفيات المعصومين عليهم السلام
فبالرغم من كون هذه المجالس محدّدة المصيبة، إلا
أنها لا تلغي دور فقرة التخلّص في مزيد من
الإبداع والتفنن.
أما ما عدا ذلك من المجالس، وطوال السنة، مثل
مجالس بقية شهر المحرم، ومجالس شهر صفر ومجالس شهر
رمضان الفضيل، فإن الخطيب فيها مخيّر باختيار
نوعية الموضوع (المحاضرة) كما له
الحرية باختيار فقرة المصيبة وما يناسبها من تمهيد
عبر فقرة التخلّص.
ونؤكد أخيراً، أن نجاح الخطيب الحسيني في فقرة
(التخلّص) يعود إلى عوامل عدة منها: متابعته لشيوخ
الخطباء، وأساتذة المنبر، الاطلاع الكامل على كل
تفاصيل السيرة الحسينية، حسّه المرهف وحسن
أسلوبه وقدرته على الإبداع المتواصل.
* دروس في بناء المجلس الحسيني.
نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. إعداد:
معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني.ص:110- 116. ط:
شباط، 2003م- 1423هـ .
1- الحج: 11.
|