خطبة الحسين علي السلام الأولى
ثّم دعا الحسينُ علي السلام براحلتِهِ فركِبَها،
وتقدَّمَ نحوَ القومِ ونادى بأعلى صوتٍ يُسمِعُ
جلَّهم:"أيُّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجَلُوا
حتى أعِظَكُمْ بما يحِقُّ لكُمْ عليّ، وحتّى
أُعْذَرَ إليكُمْ، فإنْ أعطيتُموني النَّصفَ
كنتُمْ بذلكَ أسعد، وإنْ لم تُعطوني النَّصفَ من
أنفسِكُمْ فأجمعِوا رأْيَكُمْ ثمّ لا يكُنْ
أمرُكُمْ عليكُمْ غُمّةً.ثُمَّ اقضُوا إليَّ ولا
تُنْظِرونْ، إنَّ وليِّيَ اللهُ الذي نزَّلَ
الكتابَ وهو يتولَّى الصالحين".
ثم حمِدَ اللهَ وأثنى عليه وذكَرَهُ بما هو أهلُهُ
وصلَّى على النبيِّ وآلهِ وعلى الملائكةِ
والأنبياء.
ثم قال علي السلام:"أيّها الناس:فانسِبوُني
فانظُروا مَنْ أنا؟ ثُّمَ ارْجِعوا إلى أنفسِكُمْ
وعاتِبوها، فانظُروا هلْ يصلُحُ لكُمْ قتلي
وانتهاكُ حُرمتي؟!ألستُ ابنَ بنتِ نبيِّكُمْ،
وابنَ وصيِّهِ وابنَ عمِّهِ وأوَّلَ المؤمنِينَ
المصدِّقِ لرسولِ اللهِ بما جاءَ بهِ من عندِ
ربِّه؟ أوليسَ حمزةُ سيّدُ الشهداءِ عمّي؟ أوليسَ
جعفرٌ الطيّارُ في الجنَّةِ بجناحَيْنِ عمّي؟
أَوَلَمْ يبلُغْكُمْ ما قالَ رسولُ اللهِ لي
ولأخي:هذانِ سيِّدا شبابِ أهلِ الجنَّة؟
فإن صدَّقتموني بما أقولُ وهوَ الحَقُّ، فواللهِ
ما تعمَّدْتُ كَذِباً منذُ علمْتُ أنَّ اللهَ
يمقُتُ عليْهِ أهلَه، وإنْ كذَّبتُمُوني فإنَّ
فيكُمْ منْ إنْ سأَلتُموهُ عن ذلكَ أخبرَكُم.
سلُوا جابرَ بنَ عبدِ اللهِ الأنصاري، وأبا سعيدٍ
الخِدْريّ، وسهلَ بنَ سعدٍ الساعديّ، وزيدَ بنَ
أرقَمْ، وأَنَسَ بنَ مالكْ، يُخْبِرُوكُمْ أنّهم
سمعُوا هذهِ المقالةَ من رسولِ اللهِ إليَّ ولأخي،
أَمَا في هذا حاجزٌ لكُمْ عن سفكِ دمي؟!".
ثمّ قال لهم الحسين علي السلام:"فإن كنتم في
شكٍّ من هذا!أفتشُكُّونَ أنّي ابنُ بنتِ نبيِّكم!فواللهِ
ما بينَ المشرقِ والمغربِ ابنُ بنتِ نبيٍّ غيري
فيكُمْ ولا في غيرِكُمْ.ويحَكُمْ! أتطلبونني
بقتيلٍ منكم قتلتُهُ! أو مالٍ لكمُ استهلكتُهُ!أو
بقِصاصِ جراحة!؟".
فأخذوا لا يكلِّمونه.فنادى علي السلام:"يا
شَبثَ بن ربعيّ، يا حجّارَ بنَ أبجَر، يا قيسَ بنَ
الأشعث، يا يزيدَ بنَ الحارث، ألم تكتُبوا إليَّ
أنْ قد أينعَتِ الثِّمارُ واخْضَرَّ الجَناب،
وإنّما تُقْدِمُ على جندٍ لك مُجنَّدة؟!".
فقال له قيسُ بنُ الأشعث:ما ندري ما تقول!ولكن
انَزِلْ على حُكْمِ بني عمِّك، فإنّهم لا يُرونَكَ
إلا ما تحبّ!.
فقال له الحسينُ علي السلام:"أنت أخو أخيك،
أتريدُ أن يطلبَكَ بنو هاشمٍ بأكثرَ من دمِ مسلمِ
بنِ عقيل، لا واللهِ، لا أُعطيهِمْ بيدي إعطاءَ
الذليلِ، ولا أُقِرُّ إقرارَ العبيد.عبادَ اللهِ،
إنيّ عُذْتُ بربّي وربِّكُمْ أنْ ترجُمون، أعوذُ
بربِّي وربِّكُمْ من كلِّ متكبِّرٍ لا يؤمنُ بيومِ
الحساب".
ثُمَّ إنَّهُ أناخَ راحلتَهُ وأمرَ عُقبةَ بنَ
سَمعانَ فعَقلَها، وأقبلوا يزحفونَ نحوَه.
زهير يكلمهم وبرير:ثم خطب فيهم زهير بن القين
فوعظهم وحذرهم، فَسبُّوهُ، وأثْنَوْا على عُبيدِ
اللهِ بنِ زيادٍ ودعَوْا لهُ، وقالُوا:واللهِ، لا
نَبْرَحُ حتَّى نقتلَ صاحبَكَ ومَنْ معَهُ أوْ
نَبْعَثَ بهِ وبأصحابِهِ إلى الأميرِ عُبيدِ اللهِ
سَلَمَاً.
فقالَ لهُمْ زهير:"عِبادَ اللهِ إنَّ وُلْدَ
فاطمةَ رضوانُ اللهِ علَيْها أحقُّ بالوُدِّ
والنَّصْرِ منِ ابْنِ سُميَّة، فإنْ لم تنْصُروهُم
فأُعيذُكُم باللهِ أنْ تقتُلُوهُم، فخَلُّوا بينَ
هذا الرجُلِ وبينَ ابْنِ عمِّهِ يزيدَ بنِ
مُعاوِية، فَلَعَمْري إنَّ يزيدَ لَيَرْضى مِنْ
طاعتِكُمْ بدونِ قَتْلِ الحسينِ علي السلام ".
فَرَماهُ شِمرُ بنُ ذي الجوشَنِ بسهمٍ،
وقال:اُسْكُتْ، أسْكَتَ اللهُ نَأمَتَكَ،
أَبْرَمْتَنا بكَثرةِ كلامِك.
فناداهُ رجلٌ فقالَ لَه:إنَّ أبا عبدِ اللهِ علي
السلام يقولُ لك:"أقبِلْ، فلَعَمْري لئنْ كانَ
مؤمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ نصَحَ لقومِهِ وأبلَغَ في
الدُعاءِ، لقَدْ نصحْتَ لهؤلاءِ وأبلغْتَ لو
نَفَعَ النُّصْحُ والإبلاغ".
ورُوِيَ أنَّ الحسينَ علي السلام قالَ لبُريْرِ
بنِ خُضَيرٍ الهمدانيّ:"كلِّمِ القومَ يا
بُريرُ وعِظْهُم".
فتقدَّمَ بُرَيرٌ حتَّى وقَفَ قريباً منَ القومِ،
والقومُ قَدْ زحَفُوا إليهِ عنْ بِكرةِ أبيهِم،
وكلّم القوم..فجعَلَوا يَرْمُونَهُ بالسِّهامِ،
فَرجَعَ بريرٌ إلى وَرائِه.
*مختصر المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء,جمعية
المعارف الاسلامية الثقافية,الطبعة الاولى
ك1-2008/1429-ص13
|