الإمام الحسين عليه
السلام والوداع
الإمام الحسين عليه السّلام يودّع ولده المريض
كانت ساعات يوم عاشوراء تقترب نحو العصر، دقيقة بعد دقيقة، والإمام الحسين عليه
السّلام يعلم باقتراب تلك اللحظة التي يفارق فيها الحياة بأفجع صورة وأفظع كيفية.
وها هو ينتهز تلك اللحظات ليقوم بما يلزم ، فقد جاء ليودّع ولده البارّ المريض،
الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السّلام. وكانت السيّدة زينب عليها
السّلام، والتي تفايضت صحيفة أعمالها بالحسنات، قد أضافت إلى حسناتها حسنةً اُخرى،
وهي تمريض الإمام زين العابدين عليه السّلام وتكفّل شؤونه. ودخل الإمام الحسين على
ولده في خيمته وهو طريح على نطع الأديم، فلا سرير ولا فراش وَثير، قد امتصّ المرض
طاقات بدنه، لا طاقات روحه المرتبطة بالعالم الأعلى. فدخل عليه وعنده السيّدة زينب
تمرّضه، فلمّا نظر علي بن الحسين إلى أبيه أراد أن ينهض فلم يتمكن من شدّة المرض،
فقال لعمته:سنّديني إلى صدرك، فهذا ابن رسول الله قد أقبل. فجلست السيّدة زينب
خلفه، وسنّدته إلى صدرها، فجعل الإمام الحسين عليه السّلام يسأل ولده عن مرضه ، وهو
يحمد الله تعالى، ثمّ قال: يا أبتِ، ما صنعت اليوم مع هؤلاء المنافقين ؟. فقال له
الحسين عليه السّلام: يا ولدي، استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، وقد شبّ
القتال بيننا وبينهم حتّى فاضت الأرض بالدم منّا ومنهم.
فقال: يا أبتاه، أين عمّي العباس ؟
فلمّا سأل عن عمّه اختنقت السيّدة زينب بعبرتها، وجعلت تنظر إلى أخيها كيف يجيبه ،
لأنّه لم يخبره قبل ذلك بمقتل العباس خوفاً من أن يشتدّ مرضه.
فقال: يا بُني، إنّ عمّك قد قُتل، وقطعوا يديه على شاطئ الفرات.
فبكى علي بن الحسين بكاءً شديداً حتّى غُشي عليه، فلمّا أفاق من غشيته جعل يسأل
أباه عن كلّ واحد من عمومته، والحسين عليه السّلام يقول له: قُتل.
فقال: وأين أخي علي ؟ وحبيب بن مظاهر ؟ ومسلم بن عوسجة ؟ وزهير بن القين ؟.
فقال له: يا بُني، اعلم أنّه ليس في الخيام رجل إلاّ أنا وأنت، وأمّا هؤلاء الذين
تسأل عنهم فكلّهم صرعى على وجه الثرى.
فبكى علي بن الحسين بكاءً شديداً، ثم قال لعمّته زينب: يا عمّتاه، عليّ بالسيف
والعصا.
فقال له أبوه: وما تصنع بهما ؟.
قال: أمّا العصا فأتوكأ عليها، وأمّا السيف فأذب به بين يدي ابن رسول الله صلّى
الله عليه وآله، فإنّه لا خير في الحياة بعده.
فمنعه الحسين عليه السّلام عن ذلك وضمّه إلى صدره، وقال له: يا ولدي، أنت أطيب
ذرّيتي، وأفضل عترتي، وأنت خليفتي على هؤلاء العيال والأطفال ، فإنّهم غرباء
مخذولون، قد شملتهم الذلّة واليتم، وشماتة الأعداء، ونوائب الزمان. سكّتهم إذا
صرخوا، وآنسهم إذا استوحشوا، وسلِّ خواطرهم بلين الكلام ، فإنّه ما بقي من رجالهم
مَنْ يستأنسون به غيرك، ولا أحد عندهم يشتكون إليه حزنهم سواك. دعهم يشمّوك
وتشمّهم، ويبكوا عليك وتبكي عليهم. ثمّ لزمه بيده وصاح بأعلى صوته: يا زينب، ويا
اُمّ كلثوم، ويا رقيّة، ويا فاطمة، اسمعن كلامي، وأعلمن أنّ ابني هذا خليفتي عليكم،
وهو إمام مفترض الطاعة. ثمّ قال له: يا ولدي، بلّغ شيعتي عنّي السّلام، وقل لهم:
إنّ أبي مات غريباً فاندبوه، ومضى شهيداً فابكوه.
الإمام الحسين عليه السّلام يودّع السيّدة زينب عليها
السّلام
يعتبر التوديع نوعاً من التزوّد من الرؤية، فالمسافر يتزوّد من رؤية مَنْ سيفارقهم
وهم يتزوّدون من رؤيته، والوداع يخفّف ألم البُعد والفراق ، لأنّ النفس تكون قد
استوفت قسطاً من رؤية الغائب، وتوطّنت على المفارقة ومضاعفاتها. ولهذا جاء الإمام
الحسين عليه السّلام ليودّع عقائل النبوّة، ومخدّرات الرسالة، وودائع رسول الله
صلّى الله عليه وآله. ليودّع النساء والأخوات والبنات وأطفاله الأعزاء، وليخفّف
عنهم صدمة مصيبة الفراق. قد تحدث في هذا العالم حوادث وقضايا يمكن شرحها ووصفها،
وقد تحدث اُمور يعجز القلم واللسان عن شرحها ووصفها، بل لا يمكن تصوّرها. إنّني
أعتقد أن تلك الدقائق واللحظات من ساعات التوديع كانت تجاوزت حدود الوصف والبيان،
فالأحزان قد بلغت منتهاها، والقلق والاضطراب قد بلغ أشدّه، والعواطف قد هاجت هيجان
البحار المتلاطمة، والدموع متواصلة تتهاطل كالمطر، وأصوات البكاء لا تنقطع، والقلوب
ملتهبة، بل مشتعلة، والهموم والغموم متراكمة مثل تراكم الغيوم. فبعد أن قُتل جميع
أصحاب الإمام الحسين عليه السّلام وبنو هاشم، ولم يبقَ من الرجال أحد، عزم الإمام
على لقاء الله تعالى، وعلى ملاقاة الأعداء بنفسه المقدّسة، فأقبل إلى المخيّم
للوداع، ونادى: يا سكينة، ويا فاطمة، يا زينب، ويا اُمّ كلثوم، عليكن منّي السّلام،
فهذا آخر الاجتماع، وقد قرب منكنَّ الافتجاع. فعلت أصواتهن بالبكاء، وصحن: الوداع،
الوداع، الفراق، الفراق، فجاءته عزيزته سكينة، وقالت: يا أبتاه، استسلمت للموت ؟
فإلى مَنْ أتّكل ؟ فقال لها: يا نور عيني، كيف لا يستسلم للموت مَنْ لا ناصر له ولا
معين، ورحمة الله ونصرته لا تفارقكم في الدنيا والآخرة، فاصبري على قضاء الله ولا
تشْكِي ، فإنّ الدنيا فانية، والآخرة باقية. قالت: أبه، ردّنا إلى حرم جدّنا رسول
الله ؟ فقال الإمام الحسين عليه السلام: هيهات، لو تُرك القطا لغفا ونام. فبكت
سكينة فأخذها الإمام وضمّها إلى صدره، ومسح الدموع عن عينيها.
ثمّ إنّ الإمام الحسين عليه السّلام دعا النساء بأجمعهنَّ، وقال لهنَّ: استعدّوا
للبلاء، واعلموا أنّ الله حافظكم وحاميكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة
أمركم إلى خير، ويعذّب أعاديكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم
والكرامة، فلا تشْكُوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم. ثمّ أمرهنَّ بلبس
أزرهنَّ ومقانعهنَّ، فسألته السيّدة زينب عن سبب ذلك، فقال: كأنّي أراكم عن قريب
كالإماء والعبيد، يسوقونكم أمام الرِكاب، ويسومونكم سوء العذاب. فلمّا سمعت السيّدة
زينب ذلك بكت ونادت: وا وحدتاه ! وا قلة ناصراه ! ولطمت على وجهها. فقال لها الإمام
الحسين: مهلاً يابنة المرتضى، إنّ البكاء طويل. ثمّ أراد الإمام أن يخرج من الخيمة
فتعلّقت به السيّدة زينب وقالت: مهلاً يا أخي، توقّف حتّى أتزوّد منك ومن نظري
إليك، وأودّعك وداع مفارق لا تلاقي بعده. فجعلت تقبّل يديه ورجليه، فصبّرها الإمام
الحسين، وذكر لها ما أعدّ الله للصابرين. فقالت: يابن اُمّي، طب نفساً، وقرّ عيناً
، فإنّك تجدني كما تحبّ وترضى.
فقال لها الإمام الحسين عليه السلام: أخيه، ايتيني بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد أجعله
تحت ثيابي ، لئلاّ أجرّد بعد قتلي، فإنّي مقتول مسلوب. فارتفعت أصوات النساء
بالبكاء. ولمّا أراد الإمام أن يخرج نحو المعركة نظر يميناً وشمالاً ونادى: هل مَنْ
يقدّم إليّ جوادي ؟. فسمعت السيّدة زينب ذلك، فخرجت وأخذت بعنان الجواد، وأقبلت
إليه وهي تقول: لمَنْ تنادي وقد قرحت فؤادي ؟! وقد جاء في التاريخ: أنّ الإمام
الحسين عليه السّلام أوصى اُخته السيّدة زينب قائلاً: يا اُختاه، لا تنسيني في
نافلة الليل.
* زينب
الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد / السيد محمد كاظم القزويني ص280_283.
|