مسلم بن عقيل في ضيافة
طوعة
وبقي ابن عقيل حائراً لا يدري إلى ابن مأواه وملجئه، فقد أحاطت به تيّارات من
الهموم، وكاد قلبه أن ينفجر من شدّة الاَلم العاصف واستبان له انّه ليس في المصر
رجل شريف يقوم بضيافته وحمايته، ومضى متلدّداً في أزقّة الكوفة، وانهى به السير إلى
سيّدة كريمة، يقال لها طوعة هي سيّدة من في المصر بما تملكه من إنسانية وشرف ونبل،
وكانت واقفة على باب دارها تنتظر قدوم ابنها، وهي فزعة عليه، من الاَحداث الرهيبة
التي مُني بها المصر، ولما رآها مسلم بادر نحوها فسلّم عليها، فردّت عليه السلام،
ووقف مسلم، فأسرعت قائلة:
" ما حاجتك؟.. ".
" اسقيني ماءاً.. ".
وبادرت السيدة فجاءته بالماء فشرب منه، ثم جلس فارتابت منه فقالت له:
" ألم تشرب الماء؟.. ".
" بلى.. ".
" اذهب إلى أهلك ان مجلسك مجلس ريبة.. ".
وسكت مسلم فأعادت عليه القول، وطلبت منه الانصراف من باب دارها ومسلم ساكت، فذعرت
منه، وصاحت به:
" سبحان الله!! إنّي لا أحلّ لك الجلوس على بابي.. ".
ولمّا حرّمت عليه الجلوس نهض، وقال لها بصوت خافت حزين النبرات:
" ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك إلي أجر ومعروف أن تقومي بضيافتي
في هذه الليلة، ولعلّي أكافئك بعد هذا اليوم.. ".
وشعرت المرأة بأن الرجل غريب، وانّه ذو شأن كبير، ومكانه عظمى، وانّه سيقوم
بمكافئتها إن أسدت عليه إحساناً ومعروفاً فبادرته قائلة:
" ما ذاك يا عبدالله؟!! "
فقال لها وعيناه تفيضان دموعاً:
" أنا مسلم بن عقيل كذّبني القوم وغرّوني.. ".
فذهلت السيّدة، وقالت في دهشة وإكبار:
" انت مسلم بن عقيل؟. ".
" نعم.. ".
وسمحت السيّدة بخضوع وإكبار لضيفها الكبير بتشريف منزلها وقد حازت المجد والشرف
بذلك، فقد آوت سليل هاشم وسفير ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله، وتحمّلت
المسؤولية من السلطة بضيافتها له.
وأدخلت السيّدة ضيفها العظيم في بيت غير البيت الذي كانت تأوي إليه، وجاءته بالضياء
والطعام، فأبى أن يأكل، فقد مزّق الاَسى قلبه الشريف، وأيقن بالرزء القاصم، وتمثّلت
أمامه الاَحداث التي سيواجهها، وقد شغل فكره الاِمام الحسين عليه السلام الذي كتب
إليه بالقدوم إلى الكوفة وانّه سيلاقي ما لاقاه.
ولم يمض قليل من الوقت حتى قدم بلال ابن السيدة طوعة، فرأى أمّه تكثر من الدخول
والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم لتقوم بخدماته ورعايته، فأنكر عليها ذلك، وسألها
عن السبب فأبت أن تخبره، فألحّ عليها، فأخبرته بالاَمر بعد أن أخذت عليه الاَيمان
والمواثيق بالكتمان، وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً، وأنفق ليله ساهراً يترقّب
بفارغ الصبر انبثاق نور الفجر ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم ليتزلّف بذلك إليها،
وينال الجائزة منها، وقد تنكّر هذا الوغد لجميع الاَعراف، والاَخلاق العربية التي
تلزم بقرى الضيف، وحمايته من كل مكروه، وكانت هذه الظاهره سائدة حتى في العصر
الجاهلي، وقد دلّ ما فعله هذا الجلف على انهيار القيم الاَخلاقية والانسانية ليس
عنده فحسب، وانّما في أغلبية ذلك المجتمع الذي فقد جميع ما يسمو به الاِنسان من
القيم الكريمة.
وعلى أيّ حال فقد قضى سليل هاشم ليله حزيناً قلقاً مضطرباً، وقد خلص في معظم الليل
إلى العبادة ما بين الصلاة وقراءة القرآن، فقد أيقن أن تلك الليلة هي آخر آيّام
حياته، وقد خفق في بعض الليل فرأى عمّه الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام في منامه
فأخبره بسرعة اللحاق به، فعند ذلك أيقن بدنوّ الاَجل المحتوم منه.
الاِفشاء بمسلم
ولمّا انبثق نور الصبح بادر بلال إلى قصر الاِمارة ليخبر السلطة بمكان مسلم عنده،
وكان الخبيث بحالة من الدهشة تلفت النظر، فقصد عبدالرحمن بن محمد بن الاَشعث وهو من
الاَسرة الانتهازية الخبيثة التي طلقت الشرف والمعروف ثلاثاً، فأسره بالاَمر، فأمره
بالسكوت لئلا يسمعه غيره فيخبر ابن زياد فينال منه الجائزة، وأسرع عبدالرحمن إلى
أبيه محمد فأخبره بالاَمر الخطير، وبدت سحنات الفرح والسرور على وجهه، وفطن ابن
مرجانة إلى أن هناك أمراً عظيماً يخصّ السلطة فبادر قائلاً:
" ما قال لك: عبد الرحمن؟.. ".
فقال وقد ملاَ الفرح اهابه:
" أصلح الله الاَمير البشارة العظمى... ".
" ماذاك؟ مثلك من بشّر بخير... ".
" إن إبني هذا يخبرني أن مسلماً في دار طوعة... ".
وطار ابن زياد من الفرح والسرور فقد تمّت بوارق آماله وأحلامه، فقد ظفر بسليل هاشم
ليقدّمه قرباناً لاَمويته اللصيقة، وأخذ يمني ابن الاَشعث بالمال والجاه المزيّف،
قائلاً له:
" قم فأتني به، ولك ما أردت من الجائزة والحظّ الاَوفى... ".
وسال لعاب ابن الاَشعث فاندفع وراء أطماعه الدنيئة لاِلقاء القبض على مسلم.
* رائد
الكرامة والفداء في الاسلام / باقر شريف القرشي ص148_152.
|