فقرة القصيدة
سبق لنا في الدرس السابق، أن توقفنا عند موضوع
فقرات المنبر الحسيني في عصرهِ الأخير، وقد درسنا
الفقرة الأولى؛ وهي فقرة (المقدمة)، وسنكمل في
درسنا هذا بقية الفقرات.
فبعد فقرة المقدمة، تأتي الفقرة الثانية، وهي فقرة
القصيدة.
2- فقرة القصيدة
لقد كان استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وأهل
بيته وأصحابه في كربلاء من جهة، وأخذ أهله وعياله
سبايا من جهة أخرى، سبباً بالغ الأثر في هذا
الاندفاع الأسطوري لرثاء شهداء كربلاء، حيث ما فتئ
الشعراء ومنذ صدمتهم الأولى، بما جرى أيام عاشوراء
عام 61 هـ وحتى الآن، بل وإلى قيام الساعة،
يبادرون إلى ترجمة عواطفهم وعميق تأثرهم وشدّة
انفعالهم بقصائد أخذت مأخذها في تهيج المشاعر،
وإرهاف الحس، وشدّة الإندفاع، في إقامة المآتم
الحسينية، ومنذ أن راح الأئمة عليهم السلام يحثّون
الناس على البكاء على الإمام الحسين عليه السلام
نراهم في الوقت نفسه يحثون على قول الشعر وإنشاده.
ولا أحسب أن شخصية غير الحسين عليه السلام وحادثة
غير واقعة كربلاء، قد حظيت بهذا الاهتمام الكبير،
من قبل أعاظم الشعراء والمبرزين منهم وعلى طول
التاريخ! وامتّد الرثاء من اللغة العربية إلى
بقية اللغات؛ كالفارسية والتركية والأوردّية، حيث
توقف الشعراء عند مقاطع من أحداث كربلاء وأشبعوها
عاطفة ولوعة وشجىً... ولقد بلغ من سعة ما كتب من
شعر باللغة الاوردّية - كمثال - ان هناك
درساً خاصاً في كليات الآداب بالجامعات الهندية
تحت عنوان (مرثية) ويعنون بها قصائد الرثاء
الحسيني.
إن تنوع المواقف والأحداث والأخلاقيات وأطراف
أحداث كربلاء، جعلت منها مادةً خصبةً غنيّةً
متنوعة الأبعاد، تغري الشعراء بالانفعال بها،
وترجمة ذلك شعراً رقيقاً حزيناً عميق التأثير، وفي
أدق أحداث
الطف.
وكل هذا أسهم في توفير مادة غنيّة وكبيرة لخطباء
المنبر الحسيني، مكّنتهم من معالجة مختلف
المناسبات والمواسم التي يغطيها المنبر الحسيني،
حتى أَلّفت مجموعات شعرية ضخمة جمعت أبرز القصائد
الرثائية، ولأشهر الشعراء المجيدين في هذا الحقل
المميّز. وعلى سبيل المثال: موسوعة شعراء الطف
للخطيب الحسيني الشهيد السيد جواد شبّر.
ثمّ إن هناك بعض القصائد قد حازت بقصب السبق حيث
راح خطباء المنبر الحسيني، يولونها عناية خاصة؛
لما تضمنته من شروط فنيّة وعاطفية مكّنتها أن تفوز
باختيار الخطباء الحُسينيين وبمستوىً لم
تحظ به قصائد أخرى...
ونقصد بالشروط الفنيّة: أن تبدأ القصيدة بما
ألِفته القصائد العربية العريقة من وقوف على
الديار وتذكرّ الأحبة والبكاء للفراق ثم يعرّج بعد
ذلك، على كربلاء وأحداثها.
وأما الشروط العاطفية فنعني بها، نجاح القصيدة
بإذكاء الحزن وتهييج الشجى، عبر اختيارها ألفاظاً
مميزة في سباكة ملفتة، تناغم الروح العاطفية
الحزينة.
إن اجتماع الشروط الفنيّة والشروط العاطفية، جعل
المنبر الحسيني يُركّز على بعض القصائد الرثائية
تعود إلى مجموعة من الشعراء دون غيرهم، ومن أبرز
هؤلاء الشعراء من قدامى ومعاصرين... قصائد
الشريف الرضي وتائية دعبل الخزاعي وقصائد السيد
حيدر الحليّ والسيد جعفر الحليّ والحاج هاشم
الكعبي والسيد رضا الهندي وآخرين.
وتاريخيّاً، فقد بدأ المنبر الحسيني، أول ما بدأ،
بقصيدة تتلى أو تنشد أمام أحد أئمة أهل البيت
عليهم السلام، حيث تأخذ العواطف مأخذها والدموع
مجاريها... وهذا واضح في المصادر المهتمة بهذا
الأمر،
ككتاب (الكامل في الزيارات) لابن قولويه فيما
ذكرته المصادر الأدبية في تراجم الشعراء الراثين
للإمام الحسين عليه السلام.
ولم تنقل لنا تلك المصادر؛ الكيفية أو الأطوار
التي كانت تلك القصائد تتلى بها، ولكنها ما كانت
-حسب المتوقع- لتتجاوز طرائق العرب في الحداء
والنوح، وفي تحسين مطلوب للصوت والإنشاد. كما في
رواية دخول أبي هارون المكفوف على الإمام الصادق
عليه السلام حيث أنشده قصيدة للسيد الحميري:
أمرر على جدث الحسين |
وقل لأعظمه الزكية |
يا أعظماً ما زلت من |
وطفاءَ ساكبة رويّة |
وإذا مررت بقبره |
فأطِلْ به وقْف المطيّة |
وابك المطهّر للمطهّر |
والمطهّرة النّقيّة |
كبكاء معولةٍ أتت |
يوماًَ لواحدها المنيّة |
حيث التفت اليه الإمام عليه السلام، ليطلب منه أن
يقرأها بالرقّة والأسلوب العاطفي الحزين وكأنه عند
قبر الحسين عليه السلام1.
إن تحسين الصوت أمر مطلوب في تلاوة القرآن الكريم
والأدعية المأثورة. وقد نقل عن الإمام زين
العابدين عليه السلام أنه كان أحسن الناس صوتاً
بالقرآن الكريم، وكان إذا قرأ القرآن انقطع الطريق
وتجمّع
الناس على داره يستمعون لقراءته...
كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: الحثّ على
أن يقرأ القرآن بألحان العرب وطرقها...
وهذا ما يرجّح أن الأطوار التي كانت تستخدم في
الرثاء الحسيني لم تكن تتجاوز تلك الطرق ولو في
بداياتها...
ولسنا هنا معنيين بمتابعة الطرق والأطوار، التي
كانت أسلوباً لإنشاد قصائد الرثاء، ولكنها مجرد
إشارة تاريخية لموضوع درسنا.
واليوم، فإنّ هناك أطواراً عدّة يزخر بها المنبر
الحسيني المعاصر، ترجع إلى المقامات المعروفة، حيث
تشترك مع بعض أساليب وطرق تلاوة القرآن الكريم، أو
الأدعية المأثورة..
ولست أجد من المناسب أن نثقل كاهل الطالب وذاكرته،
بأنواع الأطوار ومختلف طرق النعي والإنشاد
الحزين... فلسنا هنا بصدد إعداد دراسة مفصّلة عن
جميع طرق الإنشاد، التي يألفها المنبر الحسيني، بل
هدفنا أولاً؛ أن نمكّن الطالب من إنشاد القصيدة
بالطريقة التقليدية الصحيحة التي عليها المنبر
الحسيني، ونبدأ معه ببضع أطوار لا تصل إلى خمس...
كبداية، ثم له - بعد ذلك - من أن يطوّر نفسه،
شيئاً فشيئاً
مع ازدياد تقدمّه في الخدمة الحسينية، حيث يقوى
على تنويع طرق الإنشاد الرثائي، وبما يتناسب مع
أوتاره الصوتية وطول نَفَسِه وأمور أخرى. إن أول
الخطوات الفنّية في المنبر الحسيني، أن يتكوّن لدى
الطالب ذوقٌ إنشادي خاص، وتمكّن وتناغم بعد ذلك،
بالطرق التقليديّة والأساليب المتّبعة، والتي
يألفها خطباء المنبر الحسيني وجمهوره على حدّ
سواء. ولهذا فإن هذه الخطوة تكون سهلةً ومتيسّرةً
في البيئة
التي تكثر فيها المآتم الحسينية، حيث تألف الأذن
وينسجم الذوق مع أساليب إنشاد القصائد الرثائية في
الإمام الحسين عليه السلام.
بينما تكتنف هذه الخطوة بعض الصعوبات بالنسبة
للطالب الناشيء في بيئةٍ قليلةٍ المآتم شحيحة
المجالس أن لبعض أطوار إنشاد القصائد الرثائية
حضوراً خاصاً في بعض المناطق دون أخرى ومناسبات
دون ثانية.
وعموماً يمكن لنا أن نُقسّم طريقة إنشاد قصائد
الرثاء الحسيني إلى مرحلتين على الأقل، ويمكن ان
تكون ثلاث مراحل...
المرحلة الأولى: إن خطيب المنبر الحسيني، وبعد أن
ينهي فقرة المقدمة -السابقة الذكر- يشرع بقراءة
القصيدة وإنشادها، وهنا لا بد أن يبدأ الإنشاد
بصوت هاديء وبأسلوب وطريقة لا تفاجأ روّاد
المجلس...
وهذا الأمر تقتضيه طبيعة الأشياء والحكمة كما
يقال... إذ ليس من المستساغ أن يبدأ أي خطيب أو
متحدث حديثه بنبرات قوية وصوت مرتفع، هذا في حالة
الحديث فكيف بإنشاد قصيدة، يقوم طور إنشادها
وأسلوبه بدور كبير في جلب اهتمام الجمهور لها،
وانفعالهم بها وإصغائهم إليها...
وهذا الطور الذي يبدأ به خطيب المنبر الحسيني
قصيدته هو ما يعرف بطور (الدَرْجْ) وربما يلفظ
ببعض اللهجات الشعبية بـ (الدَرِجْ) واصله مأخوذ
من درج الصبي، إذا أخذ بالمشي ببطء وهدوء... وهو
المطلوب من الخطيب، إذ عليه أن يبدأ قصيدته بأسلوب
إنشاد هادئ ومريح للجمهور فكأنه يرتقي (دَرَجاً)
يبدأ من المرقاة القريبة ثم يعلو شيئاً فشيئاً.
وتتنوع طرق قراءة طور الدرج هذا، فإذا استمعنا
لأساتذة المنبر الحسيني اليوم، أو حضرنا مجالس
شيوغ الخطباء، اكتشفنا تنوع أساليبهم، ليس في طور
الدرج فقط بل وفي بقية الأطوار، حيث يترك كل
خطيب متمرس بصمات إنشاده على الطور، بما يتحول
تدريجياً إلى تميز أسلوب الخطيب عن أسلوب خطيب
آخر، فيقال مثلاً: هذا أسلوب الشيخ الوائلي، أو
أسلوب الشيخ النُويني، أو أسلوب الشيخ هادي
الكربلائي وهكذا...
ويستمر الخطيب بالتزام طور الدرج، لعدة أبيات في
مقدمة القصيدة، لا تقل-كحدٍّ أدنى- عن ثلاثه، وهي
تبدو قليلة...
كما يمكن أن تمتد لعشرة أبيات أو ربما أكثر، وذلك
حسب طول القصيدة التي يزمع الخطيب قراءتها.
بل قد يستولي طور الدرج على تمام القصيدة، إذا كان
محتواها فضائلياً (أي تتحدث عن فضائل النبي صلى
الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام) أو
حماسياً أو مناقبياً. أي تكون خالية من التعريج
على
مصائب كربلاء وأحزانها، وهي قصائد قليلة جداً، ضمن
ملف القصائد الحسينية التي يتبناها المنبر
الحسيني.
والنقطة الفنية في إنهاء دور الدرج الذي تبدأ به
القصيدة ومن ثم الانتقال إلى الطور الثاني وهو طور
(المُثْكِل)، هو انتقال القصيدة نفسها من موضوعها
الذي كان يتناول الذكريات والأطلال وتذكَّر الأحبة
وما إليها من موارد، إلى كربلاء وأحداثها ورموزها.
إذن؛ طور الدرج تكون بدايته هي بداية القصيدة،
ونهايته بداية ذكر أحداث كربلاء، حيث يتناغم تعريج
القصيدة على كربلاء مع ارتقاء الخطيب الحسيني
وانتقاله من طور (الدرج) الهادىء إلى طور (المُثْكِل) الشجيّ الحزين ذي الإيقاع العاطفي
الواضح، والذي يتطلب تجاوباً من الجمهور مع الخطيب
بالأنين والحنين... وهنا نكون قد وصلنا إلى نهاية
درسنا.
* دروس في بناء المجلس الحسيني. نشر: جمعية
المعارف الإسلامية الثقافية. إعداد: معهد سيد
الشهداء للمنبر الحسيني.ص: 37-43. ط: شباط،
2003م- 1423هـ .
1- راجع الكامل في الزيارات. |