شهادة
أصحاب الحسين عليه السلام
وتقدّمَ عُمَرُ بنُ سعدٍ
نحو عسكرِ الحسينِ عليه
السلام، فوضعَ سَهماً في
كَبِدِ قَوسِه ورمى وقالَ:
اشهدوا لي عندَ الأميرِ
أنِّي أوَّلُ مَن رمى، ثمَّ
رمى الناسُ، وأقبلتِ
السهامُ منَ القومِ
كأنَّها المطرُ. فلم يبقَ
من أصحابِ الحسينِ
عليه السلام أحدٌ
إلَّا أصابَهُ منْ
سهامِهِم.
فقالُ الحسينُ
عليه السلام
لأصحابِه:
"قوموا -رحِمَكُم
اللهُ- إلى الموتِ الذي
لا بدَّ منه، فإنّ هذه
السهامَ رُسُلُ القومِ
إليكم".
فحمَلَ أصحابُه حَملةً
واحدةً، واقتتلوا ساعةً
منَ النهارِ، فما انجلَتِ
الغَبَرةُ إلَّا عنْ
خمسينَ صَريعاً.
ولَمَّا قُتلَ من أصحابِ
الحسينِ
عليه السلام في
هذهِ الحَملةِ مَن قُتلَ
صارَ يبرُزُ الرجُلُ
والرجلانِ، ويستأذنونَ
الحسين
عليه السلام
ويقاتلونَ ثمَّ يُقتلونَ،
فخَرجَ منْ عسكرِ ابْنِ
سعدٍ يَسارٌ مولى زيادٍ،
وسالمٌ مولى ابْن زيادٍ،
فَطَلبا المبارزةَ،
فوَثَبَ حبيبٌ وبُرَيرٌ،
فلمْ يأذنْ لهما الحسينُ
عليه السلام.
فقامَ عبدُ اللهِ بنُ
عُمَيرٍ واستأذنَ الحسينَ
عليه السلام في
البِرازِ، فنظرَ
إليهِ الحسين
عليه السلام،
وقالَ:
"إنّي أحسَبُهُ
لِلأَقرانَ قتَّالاً".
فبرزَ إليهِما، وقاتلَهما
حتَّى قتَلَهُما مَعاً،
ثمَّ أقبلَ إلى الحسينِ
عليه السلام فأخذتِ
امْرأتُه أمُّ وَهَبٍ
عَموداً وأقبلتْ نحوَه،
وهِيَ تقولُ: فداكَ أبي
وأمِّي، قاتِلْ دونَ
الطيّبينَ ذرَّيةِ
محمّد ٍصلى الله عليه وآله
وسلم، فأرادَ أنْ
يرُدَّها إلى النساءِ,
فأخذتْ تجاذِبُه ثوبَهُ،
وتقولُ: لنْ أدَعَكَ دونَ
أنْ أموتَ مَعَكَ.
فناداها الحسين
عليه السلام: "جُزِيتُم
منْ أهلِ بيتِ نبيِّكُم
خَيراً، ارجِعي رحِمَكِ
اللهُ فإنَّه ليسَ على
النساءِ قِتالٌ". فرجَعَتْ
إلى النساء.
ولَمّا حمَلَ الشمرُ
اللعينُ في جماعةٍ منْ
أصحابِه على مَيسَرةِ
أصحابِ الحسين
عليه السلام،
فثَبتوا لهم وكشفوهم،
قاتَلَ عبدُ اللهِ بْنُ
عُمَيرٍ، فقتلَ رِجالاً،
وصَرعَ آخرينَ، وقاتَلَ
قِتالاً شَديداً، حتَّى
قُطِعَت يدُهُ اليُمنى
وساقُه, ثمَّ قُتلَ، وقيلَ:
أُخِذَ أسيراً إلى ابْنِ
سَعدٍ، فقتَله صَبراً.
وبرزَ وَهَبُ بنُ عبدِ
اللهِ، فأَحسَنَ في
الجِلادِ، وبالغَ في
الجهادِ، وكان معَه أمُّه
وزوجتُه، فقالَتْ لهُ
أمُّهُ: قُمْ يا بُنَيَّ،
وانصُرْ ابنَ بنتِ رسولِ
اللهِ
صلى الله عليه
وآله وسلم فقالَ: أفعلُ
يا أمّاهُ ولا أُقصِّرُ،
إنْ شاءَ الله.
ثمَّ برزَ فلم يزَلْ
يقاتلُ حتَّى قتلَ منهم
جماعةً، ثمَّ رجَعَ إلى
أمِّهِ وامرأتِه, وقالَ:
يا أمّاهُ، أرَضيتِ أمْ
لا؟
فقالتْ
أمُّهُ: ما رضِيتُ حتَّى
تُقتلَ بينَ يَدي الحسين
عليه السلام.
وقالتِ امرأتُه: بالله
عليكَ، لا تفجَعْني
بنفسِكَ.
فقالتْ أمُّهُ: يا بُنَيَّ،
أعْزِبْ عن قَولِها،
وارجِعْ فقاتلْ بين يدَي
ابنِ بنتِ رسولِ اللهِ،
تنَلْ شفاعةَ جدِّهِ يومَ
القيامةِ.
فتقدَّمَ إلى الحربِ، ولم
يزَلْ يقاتلُ حتَّى قُطعتْ
يَداه، فأخذتِ امرأتُه
عَموداً، وأقبلتْ نحوَه
وهِيَ تقولُ: فداكَ أبي
وأمّي، قاتلْ دونَ
الطيّبينَ حُرَمِ رسولِ
الله
صلى الله عليه وآله
وسلم.
فقالَ لها: الآنَ كنتِ
تَنْهَينَني عنِ القتالِ،
فكيفَ جئتِ تقاتلينَ
مَعِي؟!
فقالتْ: يا وهَبُ، لا
تلُمْني إنَّ واعيةَ
الحسينِ كسرَتْ قلبي.
فقالَ: ما الذي سمعتِ منهُ؟
قالتْ: رأيتُه جالساً
ببابِ الخيمةِ، وهُوَ
ينادي:
"واقِلَّةَ
ناصِراه!!".
فبكى وهَبُ كثيراً، وقالَ
لها: ارجِعي إلى النساءِ
رَحِمَكِ اللهُ، فأبَتْ،
فصاحَ وهبٌ: سيّدي أبا
عبدِ اللهِ! رُدَّها إلى
الخيمةِ، فردَّها الإمام
عليه السلام،
فانصرفَتْ إليها.
ولمّا قُتِلَ (رِضوانُ
اللهِ علَيهِ)، مَشتْ
زوجته إليهِ وجلستْ عندَ
رأسِه، تمسَحُ الدمَ
والترابَ عنه، وتقولُ:
هنيئاً لكَ الجنّةُ،
أَسألُ اللهَ الذي رزقَكَ
الجنَّةَ أنْ يَصحَبَني
مَعَكَ.
فقالَ
الشمرُ لغلامِه (رُستُمَ):
اضرِبْ رأسَها بالعَمودِ،
فَضَرَبَ رأسَها بالعَمودِ
فشدَخَهُ، فماتتْ في
مكانِها، وهِيَ أوَّلُ
امْرأةٍ قتلت من أصحاب
الحسين.
ولَمّا حمَلَ عَمرُو بنُ
الحَجّاجِ فيمَن معَهُ
مِن أصحابِه على مَيمنةِ
أصحابِ الحسين
عليه السلام،
ثَبتوا له وجَثَوْا على
الرُّكَب، وأشرَعوا
الرماح، فلم تُقدِمِ
الخيلُ، فلمَّا ذهبتِ
الخيلُ لترجعَ، رشَقَهم
أصحابُ الحسينِ
عليه
السلام بالنَّبْلِ،
فصَرعوا منهم رجالاً،
وجَرحوا آخرينَ.
ثمَّ حمَلَ عَمرُو بنُ
الحَجّاجَ مرّةً أخرى منْ
نحوِ الفُراتِ على أصحابِ
الحسينِ
عليه السلام، بعدَ
أنْ حرَّضَ الناسَ على
قِتالهِم، وفي هذه الحملة
قاتلَ مسلمُ بْنُ عوسجةَ
فبالَغَ في قتالِ الأعداءِ،
وصَبَرَ على أهوالِ
البلاءِ، حتَّى سقَطَ إلى
الأرضِ وبهِ رَمَقٌ،
فمَشى إليه الحسينُ عليه
السلام، ومَعَهُ حبيبُ بنُ
مُظاهِرٍ، فقالَ لهُ
الحسينُ
عليه السلام:
"رَحِمَكَ اللهُ يا
مُسلمُ"،
وتلا قولَه تعالى:﴿فمنهم
مَن قَضى نحبَهُ، ومنهم
مَن ينتظرُ وما بدَّلوا
تبديل﴾1.
ودنا منه حبيبٌ وقالَ:
عَزَّ عليَّ مصرَعُك يا
مسلمُ، أَبْشِرْ بالجنَّةِ.
فقالَ
له مسلمٌ بصوتٍ ضعيفٍ:
بشَّرَكَ الله بخيرٍ.
فقالَ له حبيبٌ: لولا
أنّني أعلمُ أنِّي في
الأثَرِ لاحقٌ بكَ،
لأَحببْتُ أنْ تُوصيَني
بكلِّ ما أَهَمَّكَ.
قالَ مسلمٌ: أُوصيكَ بهذا،
وأشارَ إلى الحسين ِعليه
السلام، أنْ تموتَ دونَهُ.
گربت يبن ظاهر منيتي
ما اوصّيك بعيالي
وبيتي
انكان نيتك مثل نيتي
بالحسين واعياله
وصيتي
قالَ حبيبٌ: أَفعلُ وربِّ
الكعبةِ، ولأُنْعِمَنَّكَ
عَيناً.
فَما أَسرعَ مِنْ أنْ
فاضَتْ نَفْسُه بينهما،
وقَضَى نحبَه (رِضوانُ
اللهِ علَيهِ).
ولَمّا نظرَ مَن بَقيَ من
أصحابِ الحسين
عليه السلام إلى
كَثرةِ مَن قُتِلَ منهم،
أخذَ الرجُلانِ والثلاثةُ
والأربعةُ، يستأذنونَ
الحسينَ
عليه السلام في
الذبِّ عنهُ، والدَّفعِ
عن حُرَمِه، وكلٌّ يحمي
الآخَرَ من كيدِ عدوِّهِ.
فخَرَجَ الجابريّانِ
باكيَيْنِ، فقالَ لهما
الحسينُ
عليه السلام:
"ما
يُبكيكُما؟! فواللهِ،
إنّي لَأرجو أنْ تكونا عنْ
ساعةٍ قَريرَي العَينِ".
قالا: جَعَلنا اللهُ فداكَ،
واللهِ ما على أنفُسنا
نبكي، ولكنّا نبكي
ليكَ،
نَراكَ قد أُحيطَ بكَ،
ولا نقدِرُ أنْ ندفعَ عنك
ونمنَعَكَ.
فقالَ الحسين ُعليه
السلام:
"جَزاكُما اللهُ
يا ابنَي أَخي
بِوَجْدِكُما منْ ذلكْ،
ومُواساتِكُما إيّايَ
بأنفُسِكما، أَحسَنَ
جزاءِ المتَّقين".
ثمَّ استَقْدَما أمامَ
الحسينِ عليه السلام،
فقاتَلا جميعاً قتالاً
شديداً، حتَّى قُتلا في
مكانٍ واحدٍ.
وجاءَ الغفاريَّانِ
وسلَّما على الحسين ِعليه
السلام وقالا: قدْ
حَازَنا العدوُّ إليكَ،
فأحببنا أنْ نُقتَلَ بين
يدَيك فنَمنَعَك ونَدفعَ
عنك، قالَ: "مرحباً بكما،
أُدْنُوَا منِّي"،
فدَنَوَا منه، فجعلا
يقاتلانِ قريباً
منه حتَّى قُتلا.
وكانَ أبو الشعثاءِ
الكنديُّ معَ ابنِ سعدٍ،
فلمّا رَدُّوا الشروطَ
على الحسينِ عليه السلام
صارَ مَعَه، وكانَ رامياً
مُهَدِّفاً، فجَثا على
رُكبتَيهِ بين يدَي
الحسينِ عليه السلام،
ورمَى بمَايةِ سهمٍ ما
أخطأ منها بخمسة أسهم،
والحسينُ عليه السلام
يدعو له قائلاً:
"اللهُمَّ سدِّدْ رَميتَه
واجعلْ ثوابَه الجنّةَ".
ثمَّ حمَلَ على القومِ،
فلم يزَلْ يُقاتلُ حتَّى
قَتَلَ منهم تسعةَ
نَفَرٍ، ثمَّ قُتلَ
(رِضوانُ اللهِ علَيهِ).
وحمَلَ الشمرُ على
فُسطاطِ الحسينِ
عليه
السلام وطعَنَهُ
بالرُّمحِ، وقالَ:
عَليَّ بالنّارِ
لِأُحرِقَهُ على أهلِه.
فتَصايَحَتِ النساءُ،
وخرَجْنَ منَ الفُسطاطِ،
وناداهُ الحسينُ عليه
السلام: "يا بْن ذي الجَوْشَنِ، أنتَ
تدعو
بالنّارِ لتُحرِقَ بيتي
على أهلي؟ أحرَقَك اللهُ
بالنَّارِ".
ثمَّ جاءَ إليهِ شبثُ بنُ
رِبْعي، وقالَ لهُ:
أَمُرعِباً للنساءِ صِرْتَ؟!
ما رأيتُ مَقالاً أَسوأَ
منْ مَقالَتِكَ، ولا
مَوقِفاً أقبحَ من
مَوقِفِكَ.
فاسْتَحَى الشمْرُ وهَمَّ
بالانصِرافِ فَحَمَلَ
عليهِ وعلى جماعتِهِ
زُهيرُ بْنُ القَينِ في
عَشَرةٍ من أصحابِه
فكَشفُوهم عنِ الخِيامِ،
وقُتِلَ أبو عَزرةَ
الضِبابيُّ من أصحابِ
الشمرِ. وكانَ يُقتَلُ منْ
أصحابِ ابْنِ سعدٍ
العشَرةُ وأكثرُ، فلا
يَظهَرُ عليهم
لِكَثرَتهِم.
وكانَ إذا قُتلَ منْ
أصحابِ الحسينِ الرجُلُ
والرجُلانِ يَبِينُ النقصُ
فيهِم لِقِلَّتِهم.
ولَمّا كَثُرَ القتلُ في
أهلِ الكوفةِ، صاحَ
عَمْرُو بْنُ الحَجّاجِ
بأصحابِه: وَيحَكُم يا
حُمَقاءُ، أتَدرونَ مَنْ
تقاتلونَ؟ تقاتلونَ
فُرسانَ المِصرِ، وأهلَ
البصائِرِ، وقوماً
مُستميتينَ، لا يبرُزُ
إليهم أحدٌ منكم إلَّا
قَتلوهُ على قِلّتهم.
واللهِ لَو لَم تَرموهُم
إلَّا بالحِجارةِ
لَقَتلْتموهُم.
فقالَ ابنُ سعدٍ: صَدَقْتَ،
الرأيُ ما رأيتَ، أرسِلْ
في الناسِ مَن يَعزِمُ
عليهم أنْ لا يبارزَهم
رَجُلٌ منهم، ولَوْ
خَرَجتم إليهم وُحْداناً
لَأَتَوا عليكم مبارَزةً.
وقاتلَ أصحابُ
الحسينِ
عليه السلام
قِتالاً شَديداً، وأخذَتْ
خَيلُهم تحمِلُ، وما
حمَلتْ على جانبٍ من خَيلِ
أهلِ الكوفةِ إلَّا
كَشَفتْهُ.
* المصيبة
الراتبة. نشر جمعية
المعارف الاسلامية
الثقافية. الطبعة
التاسعة.
|