الوداعُ الثالثُ
ثمَّ إنَّه علي السلام عادَ إلى الخيمَةِ، وودَّعَ
عِيالَهُ وأهلَ بيتِهِ ثالِثاً وأمرَهمْ بالصبرِ،
وقالَ لهُم:"استعدّوا للبلاءِ، واعلمُوا أنَّ
اللهَ تعالى حاميكُم وحافظُكُم، وسينجيْكُم من
شرِّ الأعداءِ، ويجعلُ عاقبةَ أمرِكُم إلى خَيرٍ،
ويعذِّبُ عدوَّكم بأنواعِ العذابِ، ويعوّضُكم عن
البليَّةِ بأنواعِ النِّعمِ والكرامةِ، فلا
تَشكوا، ولا تقولُوا بأَلسنَتِكُم ما يُنقصُ مِنْ
قدرِكُم".
فصاحَ عمرُ بنُ سعدٍ بقومِهِ:"ويحكُم، اهجمُوا
عليهِ ما دامَ مشغولاً بنفسهِِ وحُرَمِهِ، واللهِ
إنْ فَرَغَ لكُمْ لا تمتازُ مَيمَنَتِكُم عنْ
مَيْسَرَتِكُم".
فَحَمَلوا عليهِ يرمونَه بالسِّهامِ، حتى
تخالَفَتِ السِهَامُ بينَ أطنابِ المخيَّمِ، وشكَّ
سهمٌ بعضَ أُزُرِ النساءِ، فدُهِشنَ وأُرعِبنَ
وصِحنَ ودَخلْنَ الخيمةَ، وهنَّ ينظرنَ الحسينَ
كيفَ يصنعُ فحَمَلَ على القومِ كالليثِ الغضبانِ،
فلا يلحقُ أَحداً إلا بعَجَهُ بسيفِهِ فقتلَهُ، أو
طعنَهُ برمحِهِ فصرعَهُ، والسهامُ تأخذُهُ منْ
كلِّ جانبٍ وهو يتَّقيْهَا بصدرِهِ ونحرِهِ،
ويقولُ:"يا أُمَّةَ السُوءِ، بئسَمَا خلّفتُم
محمّداً في عترتِهِ، أمَا إنَّكُم لن تقتلُوا
بَعدي عَبداً مِنْ عبادَ اللهِ، فتهابُوا قتلَهُ،
بلْ يهونُ عليكُم ذلكَ عندَ قتلِكُم إيَّايَ، ثمَّ
ينتقِمُ لي منكُم مِنْ حيثُ لا تَشعُرونَ".
ورَجَعَ علي السلام إلى مركزِهِ، وهو يُكثِرُ مِنْ
قَولِ:"لا حَولَ ولا قوَّةَ إلا باللهِ العليِّ
العظيمِ".
ورّماهُ أبو الحتوفِ الجُعفيُّ بسَهمٍ وقَعَ في
جبهتِهِ المقدّسةِ فنزَعَهُ، وسالَتْ الدماءُ على
وجهِهِ وكريمتِهِ، فقالَ:"اللهُمَّ إنَّكَ تَرى
مَا أَنَا فيهِ مِن عبادِكَ هؤلاءِ العُصَاةِ،
اللهمَّ أحصِهم عَدَداً، واقتلْهم بَدَدَاً، ولا
تذَرْ على وجهِ الأرضِِ منهم أحَداً ولا تغفرْ
لهُم أبَداً".
ثمَّ لمْ يزلْ يقاتلُ حتَّى أصابتْهُ جراحاتٍ
كثيرةٍ...ولمَّا ضعُفَ عن القتالِ وقفَ ليستريحَ
ساعةً، فبينمَا هو واقفٌ إذ رمَاهُ رجلٌ بحَجَرٍ
وقعَ في جبهتِهِ الشريفةِ، فسَالتْ الدماءُ على
وجهِهِ، فأخذَ الثوبَ ليمسحَ الدمَ عنْ وجهِهِ
وعينَيهِ، إذ رمَاهُ لَعينٌ آخرَ مِنَ القومِ
بسهمٍ محدَّدٍ مسمومٍ لهُ ثلاثُ شعبٍ وقعَ على
صدرِهِ...
فقالَ الحسينُ علي السلام:"بسمِ اللهِ وباللهِ
وعلى ملَّةِ رسولِ اللهِ".
ورفَعَ رأسَهُ إلى السماءِ وقالَ:"إلهيْ إنَّكَ
تعلمُ أنّهم يقتلونَ رجلاً ليسَ على وجهِ الأرضِ
ابنُ [بنت] نبيٍّ غيرُه".
ثمَّ أخذَ السهمَ فأخرجَهُ..فانبعثَ الدمُ
كالميزابِ..
فوضَعَ يدَهُ تحتَ الجرحِ، فلمَّا امتلأَتْ دَماً
رمَى بهِ نحوَ السماءِ وقالَ:"هوَّنَ مَا نَزَلَ
بي أنَّهُ بعينِِ اللهِ".فلَمْ تسقطْ من ذلكَ
الدمِ قطرةٌ إلى الأرضِِ.
ثمَّ وضعَ يدَهُ ثانياً فلمَّا امتلأَتْ لطَّخَ
بهِ رأسَهُ ووجهَهُ، وقالَ:"هكَذَا أكونُ حتَّى
ألقَى اللهَ وجَدِّي رسولَ اللهِ وأنَا مخضوبٌ
بدَمِي، وأقولُ: يَا جدِّي قتَلَنِي فلانٌ وفلانٌ".
وأَعياهُ نزفُ الدمِ، فجلسَ على الأرضِِ....،
فانتهَى إليهِ مالكُ بنُ النِسْرِ الكِنْدِيّ في
تلكَ الحالِ، فشتَمَ الإمامَ علي السلام ثمَّ
ضربَهُ على رأسِهِ بالسيفِ، فامتَلأَ البُرنُسُ
دَماً..
قالوا: ولمَّا سقَطَ الحسينُ عَنْ ظهرِ فرسِهِ وقد
أُثخِنَ بالجراحِ قاتَلَ راجلاً قِتالَ الفارسِِ
الشجاعِ....، وشدَّ على الخيلِ وهو يقولُ:"وَيحَكُم
أَعَلَى قَتلِي تجتَمِعُونَ؟!".
*المجلس الحسيني يوم العاشر من المحرم,جمعية
المعارف الاسلامية الثقافية,الطبعة الاولى
ك1-2008/1429-ص22
|