التكليف
في ظل الانحراف
لو انحرف المجتمع الإسلامي وبلغ الانحراف درجة
بحيث خيف انحراف أصل الإسلام والمبادئ الإسلامية ـ
لأن الانحراف على قسمين ـ فتارة ينحرف الناس ،
وهذا ما يقع كثيراً، لكن تبقى أحكام الإسلام
سليمة، وتارة ينحرف الناس ويفسد الحكّام والعلماء
ومبلغو الدين، فيحرفوا القرآن والحقائق، وتبدّل
الحسنات سيئات والسيئات حسنات، ويصبح المعروف
منكراً والمنكر معروفاً ، ويحرف الإسلام 180 درجة
ـ فلو ابتلي النظام والمجتمع الإسلامي بمثل هذا
الأمر ، فما هو التكليف حينئذ؟
لقد بيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحدّد
القرآن التكليف﴿مَن
يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي
اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ
وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ﴾
. إضافة إلى آيات وروايات كثيرة أخرى.
لكن هل تمكّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من
العمل بهذا الحكم الإلهي؟ كلا، لأن الحكم الإسلامي
يطبق في عصر ينحرف فيه المجتمع الإسلامي ويبلغ
حداً يخاف فيه من ضياع أصل الإسلام، والمجتمع
الإسلامي لم ينحرف في عهد رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ولم ينحرف في عهد أمير المؤمنين عليه
السلام بتلك الصورة، وكذا في عهد الإمام الحسن
عليه السلام عندما كان معاوية على رأس السلطة، وإن
ظهرت الكثير من علائم ذلك الانحراف، لكنه لم يبلغ
الحد الذي يخاف فيه على أصل الإسلام، نعم، يمكن أن
يُقال انه بلغ في برهة من الزمن الحد، لكن في تلك
الفترة لم تتاح الفرصة ولم يكن الوقت مناسباً
للقيام بهذا الأمر.
إن هذا الحكم الذي يعتبر من الأحكام الإسلامية لا
يقلّ أهمية عن الحكومة ذاتها، لأن الحكومة تعني
إدارة المجتمع، فلو انحرف المجتمع وفسد، وتعطّل
الحكم الإلهي، ولم يوجد عندنا حكم وجوب تغيير
الوضع وتجديد الحياة أو بتعبير اليوم "الثورة "فما
الفائدة في الحكومة في الإسلام، فالحكم الذي يرتبط
بإرجاع المجتمع المنحرف إلى الخط الصحيح لا يقل
أهمية عن الحكومة ذاتها، ويمكن أن يقال إنه أكثر
أهمية من جهاد الكفار ومن الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر الطبيعيين في المجتمع الإسلامي، بل وحتى
من العبادات الإلهية العظيمة، كالحج، لماذا؟ لأن
هذا الحكم ـ في الحقيقة ـ يضمن إحياء الإسلام بعد
أن أشرف على الموت أو مات وانتهى.
إن الذي يجب عليه أداء هذا الحكم وهذا التكليف هو
خليفة النبي الذي يقع في عصره هذا الانحراف بشرط
أن يكون الوقت مناسباً للقيام بذلك، لأن الله لا
يكلّف بشيء لا فائدة فيه، طبعاً ليس معنى " أن
يكون الوقت مناسباً " هو عدم وجود الخطر، كلا، ليس
هذا المقصود، بل يجب أن يكون الوقت مناسباً، أي أن
الإنسان يعلم أن هذا العمل الذي يقوم به تترتب
عليه نتيجة إبلاغ النداء إلى الناس وإفهامهم وعدم
بقائهم على خطأهم، وربما أن الإسلام قد انحرف في
عصر الإمام الحسين عليه السلام وكان الوقت
مناسباً، لذا وجب على الحسين عليه السلام أن يثور،
فالشخص الذي تولى السلطة بعد معاوية لم يراع حتى
جوهر الإسلام، وكان منغمساً في الخمر والمجون
والتهكم بالقرآن وترويج الشعر الإباحي المرفوض من
قِبَل الإسلام، فكان يخالف الإسلام علناً، وكان
بعمله هذا كنبع الماء العفن الذي يفسد كل ما حوله،
وهكذا يكون الحاكم الفاسد، فيما انه يتربَّع على
قمّة المرتفع، فما يصدر منه لا يبقى في مكانه، بل
ينتشر ليملأ ما حوله، خلافاً للناس العاديين حيث
يبقى فسادهم لأنفسهم أو للبعض ممن حولهم، طبعاً كل
من شغل مقاماً ومنصباً رفع في المجتمع الإسلامي
كان ضرر فساده أكبر، لكن لو فسد من يقع على رأس
السلطة لانتشر فساده وشمل كل الأرض، كما انه لو
كان صالحاً، لامتدّ الصلاح إلى كل مكان.
فشخص كهذا أصبح خليفة رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فهل هناك انحرافاً أكبر من هذا؟
إذن الأرضية ممهدة، وما معنى أن الأرضية ممهدة؟ هل
معناه عدم وجود الخطر؟ كلا، فالخطر موجود، فلا
معنى أن يبقى من هو على رأس السلطة ساكتاً أمام
معارضيه ولا يخلق لهم المخاطر، بل من البديهي أن
يوجه لهم الضربات، فعندما نقول الوقت المناسب،
فمعناه أن الظروف في المجتمع الإسلامي مواتية لأن
يبلغ الإمام الحسين عليه السلام نداءه إلى الناس
في ذلك العصر وعلى مرّ التاريخ.
فلو أراد الإمام الحسين عليه السلام الثورة في عصر
معاوية لما سمع نداؤه وذلك لأن الحكم والسياسات
كانت بشكل لا يمكن للناس فيها سماع قول الحق، لذلك
فإن الإمام الحسين عليه السلام لم يقدم على شيء
ولم يثر أيام خلافة معاوية، مثلما أن الإمام
الحسين عليه السلام لم يثر على معاوية، لأن الظروف
لم تكن مواتية، وليس معنى ذلك أن الإمام الحسن
عليه السلام لم يكن أهلاً لذلك، فلا فرق بين
الإمام الحسن عليه السلام وبين الإمام الحسين عليه
السلام ، ولا بين الإمام الحسين والإمام السجاد
عليه السلام ، ولا بين الإمام الحسين عليه السلام
والإمام علي الهادي عليه السلام أو الإمام الحسن
العسكري عليه السلام ، طبعاً منزلة الإمام الحسين
عليه السلام ـ الذي أدّى هذا الجهاد ـ أرفع من
الذين لم يؤدوه ولكنهم سواء في منصب الإمامة، ولو
وقع في عصر أي منهم هذا الأمر لثار ذلك الإمام
ونال تلك المنزلة.
فالإمام الحسين عليه السلام واجه مثل هذا
الانحراف، والظروف كانت مواتية، فلا محيص للإمام
عليه السلام من تأدية هذا التكليف، لهذا فعندما
قال له عبد الله بن جعفر ومحمد بن الحنفية وعبد
الله بن عباس ـ الذين كانوا من العلماء والعارفين
بأحكام الدين ـ أن تحركك فيه خطر فلا تذهب، أرادوا
أن يقولوا:إن التكليف قد سقط عنك لوجود الخطر،
لكنهم لم يدركوا أن هذا التكليف ليس بالتكليف الذي
يسقط بوجود الخطر، لأن مثل هذا التكليف فيه خطر
دوماً، فهل يمكن لإنسان أن يثور ضد سلطة مقتدرة في
الظاهر ولا يواجه خطراً.
لقد كانوا يقولون للإمام الخميني قدس سره إن الخطر
في مواجهتهم للشاه، فهل أن الإمام لم يكن يعلم
بالخطر؟ ألم يكن الإمام يعلم أن جهاز الأمن
البهلوي يعتقل ويقتل ويعذب؟
بلى فالذي حدث في عصر الإمام الحسين عليه السلام
حدث في عصر الإمام الخميني ، فقد كان هدف الإمام
الحسين عليه السلام وهدف إمامنا العظيم مشتركاً
وهو إرجاع الإسلام والمجتمع الإسلامي إلى الصراط
المستقيم والخط الصحيح بعد أن انحرف عن المسير
وانحرف المسلمون نتيجة جهل وظلم واستبداد وخيانة
البعض وكانت الظروف مواتية في عصرنا مثلما كانت
مواتية في زمن الإمام الحسين عليه السلام ، فأقدم
الإمام قدس سره على نفس العمل، لكن مع فارق وهو أن
الثورة ضد الحكم الباطل في عصرنا انتهت بإقامة
الحكومة الإسلامية والحمد لله، لكن ثورة الإمام
الحسين عليه السلام كانت نتيجتها الشهادة، فهل أن
الثورة في الصورة "الثانية"لا تصبح واجباً؟ وهل لا
فائدة فيها إن كانت نتيجتها الشهادة؟ كلا، إن
الثورة واجبة وإن انتهت بالشهادة، ولا فرق في ذلك
سواء انتهت بالشهادة أو الحكم، لكن لكل منهما نوع
من الفائدة.
*الثورة الحسينية,
نشر
جمعية المعارف الاسلامية الثقافية,
الطبعة الاولى
نيسان, 2001/1422-ص:73 |