النهضة الحسينية
لنهضة الحسينية
كان الإمام الحسين بن علي عليه السلام في نظر
الأمة والمجتمع (أعظم الخلف ممن مضى)1،
والبقية الباقية من أهل بيت النبوة وبقية آية
التطهير وآية المودة وآية المباهلة، حتى عند
أعدائه من بني أمية2 والمنحرفين عنه3
وكان الصحابة والتابعون يطلقون عليه لقب: سيد أهل
الحجاز4، وسيد العرب5،
والسيد الكبير الذي ليس على وجه الأرض يومئذٍ أحد
يساميه ولا يساويه6، وكان المخلصون وكل
من أهمّه أمر الإسلام ينتظر منه التحرّك 7.
وقد كان الصحابة والتابعون، وكل من تناقل واهتم
بالحديث النبوي، يعرف بأنه سيد الشهداء وأنه يقتل
مظلوماً في كربلاء، وأن شفاعة النبي صلى الله عليه
وآله وسلم لن تنال قتلته، إنهم كانوا يعرفون
الطاغية الذي يأمر بقتله، ومن يقود الجيش الذي
يقتله، ومن يحمل الرأس الشريف8،
ويتداولون الأخبار التي استفاضت في التحذير من
خذلانه والنهي عن عدم نصرته، ومع ذلك، فقد تجاوب
القليل مع الأوامر النبوية، وتخاذل الأكثر. 9
منهج الإمام الحسين عليه
السلام بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام
لقد عاصر الإمام الحسين عليه السلام ، بعد استشهاد
أخيه الإمام الحسن عليه السلام ، عشر سنوات من حكم
معاوية، الذي كشف واقع أهدافه بكل صراحة بعد إبرام
وثيقة الصلح مع الإمام الحسن عليه السلام ،
ولخّصها في أن هدفه هو الاستيلاء على السلطة
والسيطرة على الحكم 10.
وكان معاوية يتدرج في تنفيذ المخطط الأموي، الذي
أفصح عنه أبو سفيان حين تولى عثمان منصب الحكم، إذ
اعتبر خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كرة
يتلاعب بها صبيان بني أمية11.
ولم يسكت الإمام الحسين عليه السلام بعد إبرام
الصلح مع معاوية، بل كان يتحرَّك وفق مسؤوليته
تجاه شريعة ربّه وأمّة جده صلى الله عليه وآله
وسلم بصفته وريث النبوة، بعد أخيه الإمام الحسن
عليه السلام ، مراعياً ظروف الأمة ومراقباً لمدى
تدهورها وساعياً للمحافظة على ثمرة جهود رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم. فحاول اختراق حصار
التضليل الأموي عبر أنشطة مختلفة، من الوعظ
والإرشاد إلى حلقات التدريس، إلى الخطب في
التجمعات العامة في موسم الحج، بل حتى في مجلس
معاوية نفسه، فعرّف مكانة أهل البيت عليه السلام
وفضلهم 12، وأنهم حجج الله على خلقه
أحياءً وأمواتاً13.
وقد عمل الإمام في فترة حكم معاوية على تحصين
الأمة ضد الإنهيار التام ويمكن أن نلخّص مجمل
نشاطه في هذه الفترة فيما يلي:
رفض بيعة يزيد
أعلن الإمام الحسين عليه السلام رفضه القاطع لبيعة
يزيد بعدما قرّر معاوية أن يسافر إلى المدينة
ليتولى بنفسه إقناع المعارضين، وقد اتّسم موقف
الإمام عليه السلام مع معاوية بالشدة والصرامة14.
التنديد بسياسة معاوية
واستقبال المعارضة
أعلن الإمام الحسين عليه السلام وفي مناسبات
مختلفة عن اعتراضه على سياسة معاوية وعلى نقضه
لشروط الصلح، واحتج على ممارسات ولاته وظلمهم
وانحرافاتهم. وأخذ يحذّر المسلمين علناً من سياسة
معاوية الهدّامة.
ولما استشهد الإمام الحسن عليه السلام تحركت
الشيعة في العراق وكتبوا إلى الحسين عليه السلام
في خلع معاوية والبيعة له، وأخذت الوفود تترى على
الإمام من جميع الأقطار الإسلامية وهي تعجّ
بالشكوى وتستغيث به نتيجة الظلم والجور الذي حلّ
بها، وتطلب منه القيام بإنقاذها من الإضطهاد،
فامتنع عليهم وذكر أن بينه وبين معاوية عهداً
وعقداً لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدة، فإذا مات
معاوية نظر في ذلك15.
ونقلت العيون في يثرب إلى السلطة المحليّة تجمّع
الناس واختلافهم إلى الإمام، وكان الوالي مروان بن
الحكم، ففزع من ذلك وخاف من عواقبه، فأرسل رسالة
إلى معاوية جاء فيها: أمّا بعد فقد كثر اختلاف
الناس إلى الحسين، والله إني لأرى لكم منه يوماً
عصيباً16، وروي أن مروان بن الحكم كتب
إلى معاوية وهو عامله على المدينة: أمّا بعد، فإن
عمرو بن عثمان ذكر أن رجالاً من أهل العراق، ووجوه
أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي، وذكر أنه
لا يأمن وثوبه، وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنه لا
يريد الخلاف يومه هذا، ولست آمن أن يكون هذا أيضاً
لما بعده، فاكتب إليَّ برأيك في هذا والسلام. فكتب
إليه معاوية: أمّا بعد، فقد بلغني وفهمت ما ذكرت
فيه من أمر الحسين، فإيّاك أن تعرض للحسين في شيء،
واترك حسيناًً ما تركك، فإنّا لا نريد أن نعرض له
في شيء ما وفى بيعتنا، ولم ينازعنا سلطاننا، فاكمن
عنه ما لم يبد لك صفحته والسلام17.
فاضطرب معاوية من تحرك الإمام فكتب إليه رسالة قال
له فيها: أمّا بعد، فقد انتهت إليَّ أمور عنك إن
كانت حقاً فقد أظنك تركتها رغبة فدعها، ولعمر الله
إن من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء، فإن
كان الذي بلغني باطلاً فإنّك أنت أعزل الناس لذلك،
وعظ نفسك، فاذكر، وبعهد الله أوف، فإنّك متى ما
تنكرني أنكرك، ومتى ما تكدني أكدك، فاتق شق عصا
هذه الأمة وأن يردهم الله على يديك في فتنة، فقد
عرفت الناس وبلوتهم، فانظر لنفسك ولدينك ولأمة
محمّد، ولا يستخفنك السفهاء والذين لا يعلمون.
فلمّا وصل الكتاب إلى الإمام الحسين عليه السلام
كتب إليه رسالة يحمّله فيها مسؤوليات جميع ما وقع
في البلاد من سفك الدماء وفقدان الأمن وتعريض
الأمة للأزمات، وهي من الرسائل التي حفلت بذكر
الأحداث التي صدرت من معاوية، فقال له فيها: "
أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر أنه قد بلغك عني
أمور(أن بي عنها غنى وزعمت أنّي راغب فيها) أنت لي
عنها راغب، وأنا بغيرها عندك جدير، فإنّ الحسنات
لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلا الله.
وأمّا ما ذكرت أنه انتهى إليك عني، فإنه إنما رقاه
إليك الملاقون المشاؤون بالنميم، وما أريد لك
حرباً ولا عليك خلافاً، وأيم الله إني لخائف لله
في ترك ذلك، وما أظن الله راضياً بترك ذلك، ولا
عاذراً بدون الإعذار فيه إليك، وفي أولئك القاسطين
الملحدين حزب الظلمة، وأولياء الشياطين. ألست
القاتل حجراً أخا كندة، والمصلين العابدين الذين
كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع، ولا يخافون
في الله لومة لائم، ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من
بعد ما كنت أعطيتهم الأيمان المغلَّظة، والمواثيق
المؤكدة، ولا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم، ولا
بإحنة تجدها في نفسك. أوَ لَست قاتل عمرو بن الحمق
صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله، العبد الصالح
الذي أبلته العبادة، فنحل جسمه، وصفرت لونه، بعد
ما أمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو
أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس الجبل، ثم قتلته
جرأةً على ربك واستخفافاً بذلك العهد. أَو َلست
المدّعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف،
فزعمت أنه ابن أبيك، وقد قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم " الولد للفراش وللعاهر الحجر "
فتركت سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
تعمداً وتبعت هواك بغير هدى من الله، ثم سلطته على
العراقين: يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم، ويسمل
أعينهم ويصلبهم على جذوع النخل، كأنك لست من هذه
الأمة، وليسوا منك. أو َلَست صاحب الحضرميين الذين
كتب فيهم ابن سمية أنهم كانوا على دين علي صلوات
الله عليه فكتبت إليه أن: أقتل كل من كان على دين
علي، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين علي عليه
السلام والله الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، به
جلست مجلسك الذي جلست، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف
أبيك الرحلتين18.
وقلت فيما قلت: " انظر لنفسك ولدينك ولأمة
محمّد، واتق شق عصا هذه الأمة وأن تردهم إلى فتنة
" وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من
ولايتك عليها، ولا أعلم نظراً لنفسي ولديني ولأمة
محمّد صلّى الله عليه وآله علينا أفضل من أن
أجاهدك فإن فعلت فإنه قربة إلى الله، وإن تركته
فإني أستغفر الله لذنبي، وأسأله توفيقه لإرشاد
أمري.
وقلت فيما قلت " إني إن أنكرتك تنكرني وإن أكدك
تكدني" فكدني ما بدا لك، فإني أرجو أن لا
يضرني كيدك فيّ، وأن لا يكون عليّ أحد أضر منه على
نفسك، لأنك قد ركبت جهلك، وتحرصت على نقض عهدك،
ولعمري ما وفيت بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء
النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود
والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا،
وقتلوا ولم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلنا،
وتعظيمهم حقنا، فقتلتهم مخافة أمر لعلك لو لم
تقتلهم مت قبل أن يفعلوا أو ماتوا قبل أن يدركوا.
فأبشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم
أن لله تعالى كتاباًً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة
إلا أحصاها، وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنة، وقتلك
أولياءه على التهم، ونفيك أولياءه من دورهم إلى
دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك غلام حدث،
يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب، لا أعلمك إلا وقد خسرت
نفسك، وبترت دينك، وغششت رعيتك، وأخزيت أمانتك،
وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقي
لأجلهم والسلام ".
فلما قرأ معاوية الكتاب قال: لقد كان في نفسه ضب
ما أشعر به! فقال يزيد: يا أمير المؤمنين أجبه
جواباً يصغِّر إليه نفسه وتذكر فيه أباه بشَرِّ
فعله، قال: ودخل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال
له معاوية: أما رأيت ما كتب به الحسين؟ قال: وما
هو ؟ قال: فأقرأه الكتاب، فقال: وما يمنعك أن
تجيبه بما يصغِّر إليه نفسه، وإنما قال ذلك في هوى
معاوية، فقال يزيد: كيف رأيت يا أمير المؤمنين
رأيي ؟ فضحك معاوية فقال: أما يزيد فقد أشار علي
بمثل رأيك، قال عبد الله:
فقد أصاب يزيد فقال معاوية: أخطأتما! أرأيتما
لوأني ذهبت لعيب علي19 محقاًً ما عسيت أن أقول
فيه، ومثلي لا يحسن أن يعيب بالباطل، وما لا يعرف،
ومتى ما عبت رجلاًً بما لا يعرفه الناس لم يحفل
بصاحبه، ولا يراه الناس شيئاًً وكذَّبوه، وما عسيت
أن أعيب حسيناًً ووالله ما أرى للعيب فيه موضعاً،
وقد رأيت أن أكتب إليه أتوعده وأتهدده،( وأسفّهه
وأجهّله) ثم رأيت أن لا أفعل ولا أمحكه.
قال في الإحتجاج: فما كتب إليه بشيء يسوؤه ولا قطع
عنه شيئاًً كان يصله به، كان يبعث إليه في كل سنة
ألف ألف درهم، سوى عروض وهدايا من كل ضرب 20.
الاحتكاك بسلطة معاوية
واختبار ردة فعله
وكان أول احتكاك بين الإمام الحسين عليه السلام
وبني أمية، في اليوم الأول من إمامته، فبعد شهادة
أخيه الحسن عليه السلام21 أراد الإمام عليه السلام
دفنه قرب جده صلى الله عليه وآله وسلم فاستنفر
مروان بن الحكم بني أمية وأمَّ المؤمنين عائشة،
وكاد يقع القتال بينهم وبين بني هاشم. إذ خرجت أم
المؤمنين على بغلة أحضرها لها مروان ومنعت الإمام
عليه السلام من دفن أخيه قرب جده. وقد حال الإمام
عليه السلام دون نشوب قتال وسفك دماء وصيّةً من
الإمام الحسن عليه السلام22. لقد كانت
هذه الحادثة إيذاناً بصورة ما سوف يكون عليه الوضع
بين الإمام الحسين عليه السلام والأمويين.
وكان معاوية ينفق أكثر أموال الدولة على تدعيم
ملكه، كما كان يهب الأموال الطائلة لبني أمية
لتقوية مركزهم السياسي والإجتماعي، وكان الإمام
الحسين عليه السلام يشجب هذه السياسة، ويرى ضرورة
إنقاذ الأموال من معاوية الذي يفتقد حكمه لأي أساس
شرعي، ولا يقوم إلا على القمع والإرهاب، وقد
اجتازت على المدينة أموال من اليمن إلى خزينة دمشق
فعمد الإمام عليه السلام إلى مصادرتها وتوزيعها
على المحتاجين، وكتب إلى معاوية: " من الحسين
بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد فإن
عِيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحُللاً
وعنبراً وطيباً إليك لتودعها خزائن دمشق وتعلّ بها
بعد النهل بني أبيك، وإني احتجتها فأخذتها،
والسلام" وقد أجابه معاوية برسالة يهدده فيها
بمن يأتي بعده، يعني يزيد23.
إعلان المعارضة في موسم
الحج
فلما كان قبل موت معاوية بسنة حجَّ الإمام الحسين
بن علي عليه السلام وعبد الله بن عباس وعبد الله
بن جعفر معه. فجمع الحسين عليه السلام بني هاشم،
رجالهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم من حجَّ منهم،
ومن الأنصار ممن يعرفه الحسين عليه السلام وأهل
بيته. ثم أرسل رسلاً: " لا تدعوا أحداًً ممن حج
العام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
المعروفين بالصلاح والنسك إلا اجمعوهم لي ".
فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل24
وهم في سرادقه، عامتهم من التابعين ونحو من مائتي
رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وغيرهم.
فقام فيهم الحسين عليه السلام خطيباً فحمد الله
وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن هذا الطاغية قد
فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم، وإني
أريد أن أسألكم عن شيء، فإن صدقت فصدقوني وإن كذبت
فكذبوني. أسألكم بحق الله عليكم وحق رسول الله وحق
قرابتي من نبيكم، لما سيرتم مقامي هذا ووصفتم
مقالتي ودعوتم أجمعين في أنصاركم من قبائلكم من
آمنتم من الناس ووثقتم به، فادعوهم إلى ما تعلمون
من حقنا، فإني أتخوف أن يدرس هذا الأمر ويذهب الحق
ويغلب، والله متم نوره ولو كره الكافرون25.
الموقف الأموي من الإمام
الحسين عليه السلام
لم تكن أية مواجهة علنية بين الإمام الحسين عليه
السلام ومعاوية في مصلحة الأمويين، وقد اعتمد
معاوية هذا الموقف طالما بقي الإمام عليه السلام
ضمن حدود المعارضة الكلامية السلمية وملتزماً
بالصلح26، وقد حاول معاوية أن يبرز هذا
الموقف بعناوين أخرى تظهر وكأنه يحتفظ بكرامةٍ
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإمام
الحسين عليه السلام أو كأنه حريص على أن لا يسفك
هذا الدم الغالي من بني عبد مناف27.
إذن فعدم التعرض للإمام عليه السلام بالأذى في عصر
معاوية كان بشرط عدم تحركه ضده، وإلا فالسيف28.
ومع ذلك فقد بقي الإمام عليه السلام تحت رقابة
أمنية مشددة من عملاء معاوية في المدينة حتى في
خصوصيات الإمام البيتية29.
لماذا لم تحصل النهضة
الحسينية في حياة معاوية؟
رفض الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أن يكون
معاوية حاكماً، ولم يساوم على ذلك ولم يداهن، وخاض
حرباً طاحنة لمنعه وطرده من الشام، وكان هذا موقف
الإمام الحسن عليه السلام لولا تخاذل أهل العراق،
إذن فأسباب ودوافع القيام على معاوية ومحاربته
كانت وما زالت إلى عصر الإمام الحسين عليه السلام
وهو ما صرّح به الإمام نفسه حين قال: وإني والله
ما أعرف أفضل من جهادك30.
ولكن هل كان بإمكان الإمام الحسين عليه السلام أن
يحقق أحد أهدافه لو تحرك ضد معاوية؟ طلب الإصلاح
في أمة جده؟ أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
أو إزالة حكومة معاوية؟ وإلا فتعريض الأمة لصدمة
مروّعة بقتله وأهل بيته بحيث تستيقظ الأمة من
غفلتها وتتحرر وتعرف الحق وأهله؟
بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام واغتياله من
قِبل معاوية ونقض معاوية لبنود الصلح تحرّك أهل
العراق وطالبوا الإمام الحسين عليه السلام بالتحرك
والثورة ضد معاوية، حيث إن الحسين عليه السلام كان
يملك الدليل المقبول لثورته، ولكنّه لم يستجب
لطلباتهم وآثر السكون ما دام معاوية حياً. وذلك
للأسباب التالية:
الأول: إن الوفاء بالعهد خُلُقٌ إسلامي
رفيع يمثّله الإمام المعصوم أحسن تمثيل، ولا يسوّغ
الإمام لنفسه أن يهبط إلى مستوى معاوية في نقضه
للعهد.
الثاني: كان بإمكان معاوية أن يستغلّ هذا
النقض، كورقة رابحة يستعملها ضدّ الإمام الحسين
عليه السلام ويضلّل به الرأي العام31.
الثالث: إن السبب الرئيس الذي دفع الإمام
الحسن عليه السلام إلى الصلح مع معاوية، وهو تخاذل
المسلمين عن نصرة ابن بنت نبيهم، ما زال مستمراً
في عصر الإمام الحسين عليه السلام ، فقد ذاق هؤلاء
مرارة الصراع بين معاوية، الذي لم يكن مكشوفاً
بعد، والإمام عليّ عليه السلام ، وبين أم المؤمنين
عائشة وطلحة والزبير، زوج النبي وأصحابه وعليّ
عليه السلام ، وبين الخوارج، الذين كانوا يدّعون
الزهد والعبادة وعليّ عليه السلام ، فأنزلوا علياً
عليه السلام إلى مستوى معاوية الذي كان يرمي
للوصول إلى الحكم بكل سبب، ولم يكن لهذا التصدي
منه والحرص على استلام السلطة أيّ مسوّغ رسالي،
وإلى مستوى عائشة أو طلحة أو الزبير، وإلى مستوى
الخوارج، ولم يستطع المسلمون تحمل الأعباء التامة
لقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وأتعبتهم
التضحيات الجمّة في الجمل وصفين والنهروان، فأخذ
جمهورهم يتهرّب من أعباء تحمّل المسؤولية الشرعية
نحو محاولة التشكيك في أصل الأهداف الكبرى التي من
أجلها يجاهد الإمام علي عليه السلام وأولاده من
بعده!! هذا التشكيك الذي تحوّل إلى نكول وتخاذل
وفرار.
وحينما يستفحل هذا الشك ويتحوّل إلى حالة مرضيّة،
كما حدث ذلك في عصر الإمام الحسن عليه السلام ، لم
يكن بالإمكان علاجها حتّى بالتضحية، بل لا بدّ من
الصبر والتأني ليتّضح لعامّة المسلمين مدى دَجَل
معاوية ومدى تظاهره بالإسلام ومدى التزام أهل
البيت عليه السلام بمبادئهم الرساليّة.
وقد فضح معاوية نفسه وكشف عن واقعه بعد نقضه لكلّ
بنود الصلح مع الإمام الحسن عليه السلام ، وكان لا
بد للشاكّين في سلامة خطّ أهل البيت عليه السلام
من الاكتواء بلظى النار التي سعّرها لهم معاوية
وأخذ يؤجّجها بكلّ ضراوة، وكان ترشيح يزيد وفرض
البيعة له بالخلافة هو آخر الخط لمعاوية، ومهّد
معاوية لذلك باغتيال الإمام الحسن عليه السلام
ليخلو له الجوّ، وقد ذكر له التأريخ أكثر من
محاولة ومراوغة لتحقيق مأربه هذا وتحكيم الجاهليّة
بثوبٍ جديد في ربوع الدولة الإسلامية.
فلو استشهد الإمام الحسين عليه السلام والحالة هذه
فسوف لا يكون لقتله أية فائدة تعود على الدين
والأمة. بل ربما يكون ضرر ذلك أكثر من نفعه، وذلك
عندما يلاحق ذلك معاوية الداهية بحملة دعائية
مغرضة، يقضي فيها على الأمل الوحيد للأمة، ويفصل
المجتمع المسلم نفسياً وفكرياً عن أهل البيت عليه
السلام بشكل عام، وعن أئمتهم بصورة خاصة.
وخلاصة الأمر: إن قتل الحسين عليه السلام
في زمن معاوية ليس فقط لا يجدي ولا ينفع، وإنما
يكون فيه قضاء تام على الأمل الوحيد للدين،
والأمة، وللحق. وبمقدار ما يكون هذا خيانة حقيقية
ظاهرة لكل ذلك، كان استشهاد الحسين عليه السلام
بعد ذلك، في كربلاء، وفاء للدين، وللأمة وللحق،
عندما لم يعد انحراف الحكم وعداؤه للدين خافياً
على أحد، ولم يكن بعد للدهاء والمكر، وللسياسات
المنحرفة أن تتستر عليه، ولا أن تقلل من وضوحه.
وأصبح السكوت عليه في تلك الظروف هو الخيانة
للدين، وللأمة، وللحق. وإلا فإن الحسين عليه
السلام قد عاش في حكم معاوية بعد استشهاد أخيه
الحسن عليه السلام عشر سنوات، ولم يقم بالثورة
ضده، مع أن الحسين عليه السلام الذي سكت في زمن
معاوية هو نفسه الحسين الذي ثار في زمان يزيد. كما
أن الانحراف والظلم الذي كان في زمانه عليه السلام
قد كان في زمان أخيه عليه السلام. وما ذكرناه هو
المبرر لسكوته هناك، وثورته هنا.
وصحيح أن الإمام الحسين عليه السلام كان كارهاً
للصلح32، ولكن الإمام الحسن عليه
السلام أيضاً كان له كارهاً. غير أن هذا الصلح،
على الكراهية التي كانت فيه، كان خيراًً للأمة
33، وإن لم يكن الأفضل، لأنها لم تكن
مستعدة، ولم تكن تملك إمكانية القيام بالأفضل منه،
وهو الجهاد والتضحية من أجل الانتصار على الطغيان
الأموي وإسقاطه34، وأما أخبار اعتراض
الإمام الحسين عليه السلام على أخيه، فهي من وضع
الأمويين وأتباعهم، فإن فيها من سوء التخاطب بين
الحسن والحسين عليه السلام ما يؤكد أنها مفتعلة35.
هذا، وقد تمدَّح الإمام الحسين عليه السلام أخاه
الإمام الحسن عليه السلام على صلحه مع معاوية،
واعتبره إيثاراً لله عند مداحض الباطل36.
وكتب أهل الكوفة أكثر من مرة إلى الإمام الحسين
عليه السلام يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة
معاوية، وفي كل ذلك يأبى عليهم37، وقد
أمرهم بلزوم بيوتهم وبالصبر والترقب، والتخفِّي عن
أعين السلطة والانتظار والتكتّم على ميولهم
وأفكارهم ما دام معاوية حياً 38.
فالقول بأن سبب عدم ثورته على معاوية إنما هو عدم
بيعة الناس له في زمنه، لا يصح. كما أن الناس
كانوا قد بايعوا الإمام الحسن عليه السلام ،
فلماذا سكت؟ ولماذا لم يطالبه الحسين بالقيام؟!
ولماذا يمدحه على صلحه لمعاوية39؟
موت معاوية وطلب يزيد
البيعة من الحسين عليه السلام
في السنة الثامنة عشرة من الهجرة عيّن عمر بن
الخطاب معاوية والياً على دمشق خلفاً لأخيه يزيد
بن أبي سفيان، فبقي حاكماً حوالي اثنين وأربعين
سنة، منها سبع عشرة سنة تقريباً والياً في عهد كل
من عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وخمس سنوات
تقريباً متمرداً باغياً في عهد أمير المؤمنين عليّ
بن أبي طالب عليه السلام ، ثم تسع عشرة سنة وبضعة
أشهر ملكاً على جميع البلاد الإسلامية، وهو
القائل: "أنا أول الملوك"40 و "رضينا
بها مُلكاً"41.
ولمّا مات معاوية منتصف رجب من سنة ستين من الهجرة
عن عمر تجاوز سبعين سنة، وخلّف بعده ولده يزيد،
كتب يزيد إلى ابن عمه الوليد بن عتبة والي المدينة
يأمره بأخذ البيعة من الحسين بن علي عليه السلام
قبل أن يعلم أهل المدينة بالأمر، ولا يرخص له في
التأخر عن ذلك ويقول: إن أبى عليك فاضرب عنقه
وابعث إليّ برأسه42، ولعل الاستعجال
بأخذ البيعة من الحسين عليه السلام قبل أن يعلم
أهل المدينة بالأمر كان نصيحة من مروان بن الحكم
للوالي43، الذي أحضره الوليد واستشاره
في أمرالإمام الحسين عليه السلام ، فقال: إنه لا
يقبل، ولو كنت مكانك لضربت عنقه، فقال الوليد:
ليتني لم أك شيئاًً مذكوراً.
ثم بعث الوليد إلى الحسين عليه السلام في الليل
فاستدعاه، قبل أن يفشو الخبر، وكان عليه السلام في
المسجد النبوي، جالساً مع عبدالله بين الزبير44
فعرف الحسين عليه السلام الذي أراد، فدعا بجماعة
من أهل بيته ومواليه وكانوا ثلاثين رجلاًً وأمرهم
بحمل السلاح وقال لهم:
"إن الوليد قد استدعاني في هذا الوقت، ولست آمن
أن يكلّفني فيه أمراً لا أجيبه إليه، وهو غير
مأمون، فكونوا معي، فإذا دخلت فاجلسوا على الباب،
فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه عني"45.
ثم صار الحسين عليه السلام إلى الوليد فوجد عنده
مروان بن الحكم، فنعى الوليد معاوية، فاسترجع
الحسين عليه السلام ، ثم قرأ عليه كتاب يزيد وما
أمره فيه من أخذ البيعة منه ليزيد. فلم يُرد
الحسين عليه السلام أن يصارحه بالامتناع من البيعة
وأراد التخلّص منه بوجه سلمي، فقال له:
"إني أراك لا تقنع أو تجتزئ ببيعتي سراًً حتى
أبايعه جهراً فيعرف ذلك الناس"، أو "دون ان
نظهرها على رؤوس الناس علانية". أو قال له
"لا خير في بيعة سر، والظاهرة خير، فإذا حضر الناس
كان أمراً واحداً".
فقال له الوليد: أجل!
فقال الحسين عليه السلام: "تصبح وترى رأيك في
ذلك".
فقال له الوليد: انصرف على اسم الله حتى تأتينا مع
جماعة الناس.
فقال له مروان: والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم
يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداًً، حتى تكثر
القتلى بينكم وبينه، ولكن احبس الرجل فلا يخرج من
عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه.
فلما سمع الحسين عليه السلام مروان صارحهما
حينئذٍٍ بالامتناع من البيعة وأنه لا يمكن أن
يبايع ليزيد أبداًً، فقال لمروان: ويلي عليك يا
ابن الزرقاء ! أنت تأمر بضرب عنقي؟! كذبت والله
ولؤمت. والله لو رام ذلك أحد من الناس لسقيت الأرض
من دمه قبل ذلك، وإن شئت ذلك فرم ضرب عنقي إن كنت
صادقاً.
ثم أقبل على الوليد فقال: أيّها الأمير إنَّا أهل
بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحل
الرحمة. بنا فتح الله وبنا ختم. ويزيد رجل فاسق،
شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق،
ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر
وتنظرون أيّنا أحق بالخلافة والبيعة46.
وسمع من بالباب من الهاشميين الحسين عليه السلام ،
فهمّوا بفتح الباب وإشهار السيوف، فخرج إليهم
الحسين عليه السلام سريعاً فأمرهم بالإنصراف إلى
منازلهم، وتوجه إلى قبر جدّه رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم47، ثم عاد إلى منزله مع
الصبح48.
وكانت تلك الليلة هي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب
سنة ستين، فلما أصبح خرج من منزله يستمع الأخبار،
فلقيه مروان فقال له: يا أبا عبدالله إني لك ناصح
فأطعني ترشد، فقال الحسين عليه السلام: وما ذاك،
قل حتى أسمع! فقال مروان: إني آمرك ببيعة يزيد بن
معاوية فإنه خير لك في دينك ودنياك.
فقال الحسين عليه السلام: "إنا لله وإنا إليه
راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة
براعٍ مثل يزيد".
وطال الحديث بينه وبين مروان حتى انصرف عليه
السلام وهو غضبان، فلما كان آخر نهار السبت بعث
الوليد إلى الحسين عليه السلام ليحضر فيبايع فقال
لهم الحسين عليه السلام: أصبحوا ثمّ ترون ونرى،
فكفّوا عنه تلك الليلة، ولم يلحّوا عليه واشتغلوا
بابن الزبير49، فعزم عليه السلام على
الخروج من المدينة.
فلما كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضا
وصلّى ركعات، فلما فرغ من صلاته جعل يقول:
"اللهم هذا قبر نبيك محمّد، وأنا ابن بنت نبيك،
وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم إني أحب
المعروف، وأنكر المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال
والإكرام بحق القبر ومن فيه إلا اخترت لي ما هو لك
رضى، ولرسولك رضى".
ثم جعل يبكي عند القبر، حتى إذا كان قريباً من
الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى، فإذا هو برسول
الله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن
شماله وبين يديه، حتى ضم الحسين عليه السلام إلى
صدره وقبَّل بين عينيه، وقال: "حبيبي يا حسين،
كأنّي أراك عن قريب مرملاً بدمائك، مذبوحاً بأرض
كربٍ وبلاء، من عصابة من أمتي، وأنت مع ذلك عطشان
لا تسقى، وظمآن لا تروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي،
لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، حبيبي يا حسين
إن أباك وأمك وأخاك قدموا عليَّ وهم مشتاقون إليك،
وإن لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلا بالشهادة"
فجعل الحسين عليه السلام في منامه ينظر إلى جده
ويقول: "يا جداًه لا حاجة لي في الرجوع إلى
الدنيا فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك"
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "
لابد لك من الرجوع إلى الدنيا حتى ترزق الشهادة،
وما قد كتب الله لك فيها من الثواب العظيم، فإنك
وأباك وأخاك وعمك وعم أبيك تحشرون يوم القيامة في
زمرة واحدة، حتى تدخلوا الجنة ".
فانتبه الحسين عليه السلام من نومه، ثم رجع إلى
منزله، وعند الصبح قص رؤياه على أهل بيته وبني عبد
المطلب، فلم يكن في ذلك اليوم، في مشرق ولا مغرب،
قوم أشد غماً من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ، ولا أكثر باكٍ ولا باكيةٍ منهم50.
وأقبل أخوه محمّد بن الحنفية51 فقال
له: يا أخي أنت أحب الناس إلي وأعزّهم علي ولست
أدخر النصيحة لأحد من الخلق إلا لك وأنت أحق بها
" لأنك مزاج مائي ونفسي وروحي وبصري وكبير أهل
بيتي، ومن وجب طاعته في عنقي، لأن الله قد شرفك
عليّ، وجعلك من سادات أهل الجنة"52،
تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما
استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك،
فإن تابعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك،
وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك
ولا عقلك ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك، إني أخاف
أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم
فمنهم طائفة معك وأخرى عليك، فيقتتلون فتكون أنت
لأول الأسنّة غرضاً، فإذا خير هذه الأمة كلها
نفساً وأباً وأماً أضيعها دماً وأذلها أهلاً!
فقال له الحسين عليه السلام: " فأين أذهب يا
أخي ؟".
قال: انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فذاك وإن
تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن، فإنهم أنصار جدك
وأبيك، وهم أراف الناس وأرقهم قلوباً، وأوسع الناس
بلاداً، فان اطمأنت بك الدار، وإلا لحقت بالرمال
وشعف "شعوب" الجبال وخرجت من بلد إلى بلد، حتى
تنظر (ما يصير أمر الناس إليه)" ويحكم الله
بيننا وبين القوم الفاسقين"، فإنك أصوب ما
تكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالاً. فقال
الحسين عليه السلام: "يا أخي والله لو لم يكن
ملجأ، ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية53"،
فقطع محمّد ابن الحنفية الكلام وبكى.
فقال الحسين عليه السلام: " يا أخي" جزاك الله
خيراًً قد نصحت وأشفقت، وأرجو أن يكون رأيك سديداً
موفقاً 54 وأنا عازم على الخروج إلى
مكة، وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي،
وأمرهم أمري ورأيهم رأيي55".
ثم دعا الحسين عليه
السلام بدواة وبياض وكتب هذه الوصية لأخيه محمّد:
" بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحسين
بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمّد المعروف بابن
الحنفية، إن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له وأن محمّداً عبده ورسوله، جاء بالحق من
عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية
لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأني لم
أخرج أَشِراً ولا بَطِراً ولا مفسداً ولا ظالماً
وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلّى الله
عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر،
وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب عليه
السلام ، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق،
ومن ردّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين
القوم بالحق وهو خير الحاكمين".
وهذه وصيتي يا أخي إليك وما توفيقي إلا بالله عليه
توكلت وإليه انيب. ثم طوى الحسين عليه السلام
الكتاب وختمه بخاتمه، ودفعه إلى أخيه محمّد ثم
ودعه وخرج في جوف الليل56.
إإن حوادث الليلة التي
وصل فيها خبر موت معاوية إلى المدينة تكشف عدة
أمور مهمة:
أولاً: إن الإمام الحسين عليه السلام كان
يخشى من عملية إطفاء لثورته قبل أن تضطرم، عبر
اغتياله سراًً أو في عملية مواجهة محدودة مفتعلة،
تتبعها مسرحية مكذوبة يقوم الأمويون بإخراجها،
وبالتالي تُجهض الثورة الحسينية من أولها، ولذلك
كان احتياط الإمام عليه السلام شديداًً، فقد طلب
من ثلاثين مقاتلاً من بني هاشم وأنصارهم مرافقته
وحمايته، حتى لو وصل الأمر إلى حدِّ اقتحام قصر
الإمارة بدون استئذان إذا سمعوا صوته عليه السلام
قد علا.
ثانيا: طلب الإمام عليه السلام أن تكون
البيعة علنية، ولكن الإمام عليه السلام لم يكن
ليبايع يزيد لا سراًً ولا جهراً، كما أنه بسبب
القوة العسكرية التي رافقته والتي تدل على أنه كان
مستعداً للإشتباك، يظهر أنه احتاط لكي لا يتم
إحراجه بالبيعة.
إذاً، هو لم يكن يريد البيعة أصلاً، فلا بد أن
طلبه أن تكون البيعة علنية لكي يستثمر الإجتماع
العام لأهل المدينة غداًً، مع ما في هذا الإجتماع
من رموز الصحابة والتابعين، فإذا رفض البيعة علناً
وفضح حقيقة يزيد وذكرهم بموقعه عند النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وفي القرآن ودعاهم إلى مبايعته
ونصرته فقد ينقلب الوضع لمصلحته، ولكن مروان انتبه
إلى مراد الإمام الحسين عليه السلام فضيّق عليه
الفرصة التي أتاحها له الوالي حينما قبل بالتأجيل،
وذلك عبر التلفظ بتهديد الإمام بالقتل هنا وفي هذه
الغرفة، إذ سوف يصبح الإمام عليه السلام حينئذٍٍ
بين محذورين، إما الإستسلام للإبتزاز والسكوت
والخضوع، وإما الرفض للإبتزاز وكشف ورقته التي
يخبئها هنا، وقد اختار الإمام عليه السلام الخيار
الثاني، فأعلن عن موقفه وتخلّى عما كان يتأمله من
ذلك الإجتماع العام إن حصل.
ثالثاً: يظهر أن مروان بن الحكم كان
منافساً قوياً للوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ويريد
منه إما أن يقتل الحسين عليه السلام فيتخلص
الأمويون من ألد أعدائهم على يد الوليد، وإما أن
لا يفعل فيسهّل عملية عزله واحتلال مكانه والياً
على المدينة.
رابعاً: يظهر من كثير من النصوص أن الوليد
بن عتبة كان خائفاً على آخرته من التورط في قتل
الإمام الحسين عليه السلام57، إلا أنه
مع ذلك كان بنظر الإمام الحسين عليه السلام (غير
مأمون)58، إذ قد يقدم على ارتكاب جريمة
كبيرة إذا ما أحرج حرجاً شديداًً، ولذلك لم يرغب
الإمام السير طويلاًً في استفزازه، ومع أن الإمام
بقي يومين وليلتين بعد تلك الليلة، ومع أنه تجوَّل
في المدينة نهاراً واستعد مع أهله وأنصاره وبشكل
علني للخروج إلى مكة، وخرج على الطريق العام فإن
الوليد لم يبادر إلى عملٍ ضد الإمام، وهذا كان من
دوافع يزيد إلى عزله بعد ذلك.
ويظهر أيضاً أن الوليد
كان والياً مناسباً لسياسة
معاوية، المبنية على المرونة والدهاء مع أعدائه
وعدم الحمق والنزق في الإدارة، ولكنه لم يكن
مناسباً لتمثيل يزيد، فأراد معالجة مشكلة الإمام
عليه السلام على طريقة معاوية، كما أنه لم يعلن
موت معاوية ولم يدعُ إلى اجتماع عام إلا بعد خروج
الإمام عليه السلام من المدينة، وهذا من دهائه،
فقد أراد تفويت الفرصة على الإمام عليه السلام ،
ولكن مرونة ودهاء الوليد على كل حال ساعد الإمام
عليه السلام على الخروج مبكراً من المدينة دون أي
ممانعة أو مضايقة، مما سهّل حركة الإمام بعد ذلك،
بينما كان من المفروض حسب سياسة يزيد ومروان
التضييق على الإمام وفرض الإقامة الجبرية عليه من
أجل إجباره على البيعة أو قتله في المدينة حتى
تخنق الثورة في مهدها.
الخيارات المطروحة أمام
الإمام الحسين عليه السلام
لقد كان أمام الحسين عليه السلام عدّة حلول ممكنة
بعد أن طلب يزيد منه البيعة وهدّده بالقتل إن لم
يبايع:
الأول: أن يبايع يزيد كما بايع عليّ أبا
بكر وعمر وعثمان.
الثاني: أن يرفض البيعة ويبقى في مكّة أو
المدينة.
الثالث: أن يلجأ إلى بلد من بلاد العالم
الإسلامي، بعيداً عن المواجهة المباشرة مع الدولة
الأموية، حتى يلتف حوله العدد الكافي لمواجهة هذه
الدولة.
الرابع: أن يتحرك ويغادر المدينة إلى مكة منتظراً
تحرك أهل الكوفة وبيعتهم له، فإذا ما حصل ذلك فإنه
يتوجه نحو العراق ويخوض المعركة الفاصلة مع الدولة
الأموية، التي كان يعلم أنه سوف يُستشهد فيها،
وبالطريقة التي وقعت. وكان اختياره للموقف الأخير
قائماً على أساس إدراكه لطبيعة الظرف الذي تعيشه
الأمة الإسلامية!!
فإن جزءاًً كبيراً من الأمة الإسلامية قد فقد - مع
قيام الدولة الأموية، وخصوصاً خلال عهد معاوية -
إرادته وقدرته على مواجهة النظام الأموي، وهو يشعر
بالذل والإستكانة، والشلل وعدم القدرة على التحرك.
فقد كان حجم الإرهاب الأمني الأموي مفاجئاً
للإنسان العربي، الذي لم يدرِ كيف يتعامل معه، وهو
الذي اعتاد على الفردية في كل تفاصيل حياته، بينما
كانت إزالة النظام الأموي وهزيمته تحتاج إلى تكتل
وتظافر وتعاون واتحاد وإطاعة لقائدٍ أو لحزبٍ يكون
في مستوى القدرة على تحدي النظام الأموي وإزالته،
ولم يكن سوى الإمام الحسين عليه السلام مؤهلاً
لذلك.
كما أن جزءاًً كبيراً آخر من الأمة الإسلامية قد
هان عليه أمر الإسلام، فلم يعد يهتم إلاّ بمصالحه
الشخصية، وتضاءلت أمامه الرسالة الإسلامية، فهو
انضم إليها سلاّباً نهّاباً، يقاتل من أجل الغنيمة
ويطمع بالعيش الرغيد.
ولكن جزءاًً كبيراً من الأمة الإسلامية كان يعلم
تماماً أنّ خسارة كبيرة تحيق بالأمة الإسلامية من
خلال تبديل الخلافة إلى قيصرية وكسروية. وأنه في
عهد معاوية طرأ تغيّر أساسي على نفس مفهوم
الخلافة، فلم تعد الخلافة حكماًً للأمة، بل حوّلها
معاوية إلى حكم كسرى وقيصر، وهو تحويل خطير في
المفهوم أراد معاوية أن يلبسه ثوب الشرعيّة، ولكن
هذا التحويل لم يواجه بالمعارضة والرفض من قِبل
الصحابة، بل سكتوا واستكانوا، فأمكن أن تنطلي حيلة
معاوية على الكثير من السذّج والبسطاء من العوام
إذ يرون في سكوت الصحابة إمضاءً له، وكان في ذلك
إحراج شديد للإمام الحسين عليه السلام وهو
الصحابي، والممثِّل للدين والقرآن والإسلام، فكيف
يسكت؟ ألا يُفهم من سكوته الإمضاء لهذا التحول؟
ثم إن حقيقة موقف الإمام الحسن عليه السلام في
مسألة الصلح لم تكن معروفة لجمهور وعموم المسلمين،
إلا داخل دائرة خاصة ومحدودة جداًً كانت تعيش هذه
المسألة عن قرب، بل حتى الأقربين كانوا غير قادرين
على فهمها، كبعض أصحاب الإمام الحسن عليه السلام
الذي خاطبه يوماً بكلامٍ لا يخلو من عدم الإحترام
قائلاً: "السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين" !!
فكيف بأهل العراق بشكل عامّ ؟؟ وكيف بمن كان يعيش
في أطراف العالم الإسلامي كأقاصي خراسان، حيث لم
يعش المحنة يوماً بعد يوم ولم يكتوِ بالنار التي
اكتوى بها الإمام الحسن عليه السلام في الكوفة من
قواعده وأعدائه، وإنما كانت تصله الأخبار عبر
المسافات الشاسعة بين الكوفة وأطراف خراسان مثلاً
؟؟
فكل هؤلاء لم يفهموا أن صلح الحسن مع معاوية
وتنازله عن الخلافة مؤقتاً ليس اعترافاً بشرعيّة
معاوية والأطروحة الأموية !! بل هو تصرّف اقتضته
الضرورة والظروف الموضوعية التي كان يعيشها الإمام
الحسن عليه السلام.
فكان لا بدّ للإمام الحسين عليه السلام أن يختار
موقفاً يعالج فيه مشكلة كل هذه الإنهيارات في موقف
الجمهور الإسلامي. بأن يعيد إلى الأمة إرادتها
التي فقدتها بالتميّع الأموي، وإيمانها بالرسالة
وشعورها بأهميّة الإسلام، وأن يكشف معاوية ويرفع
عنه التستر بأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأنهم سكتوا على تحويل الخلافة إلى كسروية
وقيصرية، وذلك عن طريق رفضه شخصياً لذلك التحويل
مهما كان الثمن، على أساس أنه من الصحابة،
ويمثلهم، وأنه رمز لهم، والبقيّة الباقية من
الصحابة..
ولا بد أيضاً أن يختار الإمام الحسين عليه السلام
الموقف الذي يشرح فيه، حتى لمن كان بعيداً عن
الأحداث، أن تنازل الإمام الحسن عليه السلام لم
يكن إقراراً بحقٍ ما لمعاوية ولا لبني أمية، وأن
أهل البيت يرفضون تحويل خلافة النبي صلى الله عليه
وآله وسلم إلى كسروية وقيصرية.
فما هو الموقف الذي يحقق
كل هذه الأهداف معاً ؟
ما مبايعة يزيد بن معاوية، فسوف تكرّس كل المخاطر
والمحاذير، وليست خلافة يزيد كخلافة أبي بكر وعمر
وعثمان، لأن خلافة هؤلاء جاءت من بيعة محدودة، أو
من شورى، أو بتعيين لا يستبطن التوريث العائلي
والتمليك الشخصي، وأما هنا في حالة يزيد بن
معاوية، فقد أصبحت تركة يحصل عليها الورثة
بالتوريث العائلي الخاص.
إذن فالتحويل هنا على مستوى المفهوم، وسوف يعني
على مستوى التطبيق خسارة احتمال عودة الإمامة إلى
أهل البيت إلى الأبد !! وتنازل الحسن عليه السلام
كان مؤقتاً. فلم يكن بالإمكان أن تمضي عملية
التحويل هذه دون أن يقف أهل البيت، الذين هم
القادة الحقيقيون للأمة، الموقف الديني الواضح
المحدّد منها.
وأما الموقف الثاني: فهو لا يحقّق ذلك
المكسب الذي يريده الحسين عليه السلام أيضاً وذلك
لأن الإمام الحسين عليه السلام كان يؤكد أنه لو
بقي في المدينة أو في مكّة رافضاً للبيعة لقتل من
قِبل بني أمية حتى ولو كان متعلقاً بأستار
الكعبة.. وهذا القتل ليس كالقتل الذي استطاع أن
يحرك البقية الباقية من عواطف المسلمين تجاه
رسالتهم ودينهم. حتى ولو كان هذا القتل من خلال
مواجهة عسكرية في المدينة، كان يحتمل احتمالاً
كبيراً وقوعها بعد تعرض الإمام عليه السلام لعملية
اغتيال مدبّرة من قبل الوالي59، وحتى
لو فرضنا رفض الوالي لتطبيق تلك الفكرة، إلا أن
يزيد لن يعدم والياً أموياً آخر يقوم بالمهمة، بل
لعل في بعض الأخبار ما يصرح بأن الأمويين دسّوا
على الإمام الحسين عليه السلام من يقوم باغتياله60.
فإlرجاع الناس إلى عقيدتهم، من خلال إثارة المتبقي
من عواطفهم ومشاعرهم، سوف لن يتحقق من خلال قتلٍ
عابرٍ سهلٍ من هذا القبيل، بل لا بد من أن تحشد له
كل المثيرات والمحرّكات.
ولذلك كان السبب الرئيس لخروج الحسين عليه السلام
من المدينة ليس مجرد الخشية من الإغتيال، بل كان
الخوف من أن تخنق ثورته، بإغتياله، وتكتم أنفاسها
سراًً، قبل أن تشتعل، وفي ظروف يقوم الأمويون
بإعدادها وإخراجها، وتذهب فيها نفس الحسين عليه
السلام رخيصة في ظروف ملتبسة، ثم يقوم الأمويون
بالإستفادة من الحادثة كعادتهم، وتحويل آثارها
لمصلحتهم.
وأما الموقف الثالث: فهو وإن كان أسلم من
الأول والثاني على الخطّ القصير، لأنه يمكنه أن
يعتصم بشيعته في اليمن مثلاً إلى برهة معينة،
لكنّه سوف ينعزل ويحيط نفسه بإطارٍ منغلق عن مسرح
الأحداث، بينما لابدّ أن يباشر عمله التغييري على
مسرح الأحداث الذي كان وقتئذٍ هو الشام والعراق
ومكّة والمدينة، كي يمكن لهذا العمل أن يؤثّر
تربوياً وروحياً وأخلاقياً في كلّ العالم
الإسلامي.
وعليه كان لابدّ أن يختار الموقف الرابع الذي
استطاع أن يهزّ به ضمير الأمة من ناحية، ويشعرها
بأهميّة الإسلام وكرامة هذا الدين من ناحية ثانية.
وأن يدحض عمليّة تحويل الخلافة إلى كسروية وقيصرية
من ناحية ثالثة، وأن يوضّح لكلّ المسلمين مفهوم
التنازل عند الإمام الحسن عليه السلام ، وأنه لم
يكن موقفاً إمضائياً وإنّما كان أسلوباً تمهيدياً
لموقف الإمام الحسين عليه السلام.
وإذا كانت الهزيمة النفسية للأمة هي الحالة
المرضيّة العامّة التي قد تعرضت لها الأمة المسلمة
في عصر الحسين عليه السلام ، فالحسين حين يريد
معالجة هذا المرض المستشري في جسمها لا بد له أن
يقدّم الموقف النظري والعملي معاً تجاه الوضع
القائم، ويضع النقاط على الحروف بنحوٍ ينتهي إلى
اجتثاث جذور هذا المرض الخبيث.
ومن هنا كانت الثورة المسلحة بالشكل المثير جدّاً،
والذي يستنهض النفوس الميّتة ويحييها من سباتها
ويبدِّل جُبنها إلى الشجاعة ووهنها إلى الإقدام،
هو الحل الوحيد للأزمة التي حلت بالأمة المسلمة
بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد رفض الإمام الحسين عليه السلام رفضاً قاطعاً
بيعة يزيد، ولم يكن هذا الرفض سلبياً، بل كان
رفضاً إيجابياً متحرِّكاً باتجاه نقض البنيان
الأموي، طلباً للإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، فلم يكن الإمام الحسين عليه السلام ليسكت،
حتى لو سكت عنه النظام الأموي، بل كان خروجه فعلاً
ابتدائياً درءاً للخطر الذي أخذ يتهدد الإسلام
بخلافة يزيد.
والأمر الآخر أن الإمام عليه السلام كان أمامه
التهديد الأموي إن هو لم يبايع، ولو بايع فإنه
سيعطي في مثل هذه الحالة الوثيقة الشرعيّة للحكّام
الأمويين الظلمة وسيطفئ بالتالي بصيص الأمل الذي
ترصده الأمة في تلك الشخصيّة المعارضة، أعني شخصية
الإمام عليه السلام.
وفي حالة رفضه فإنه أمام خيارين: إما الموت الذي
قرّره الأمويون له، ولو كان متعلقاً بأستار
الكعبة، وإما الرحيل إلى إحدى المناطق التي يمتلك
فيها شعبيّة وشيعة، ولا تتعدى هذه المناطق اليمن،
الكوفة والبصرة، ومن المعلوم أن الطلب الأموي سوف
يلاحقه في هذه المناطق بلا فرق. وما دامت الكوفة
تحتوي أكثر القواعد الشعبية المؤيّدة له بالإضافة
إلى الطلب الشديد من قِبل أهلها، فإنّ الخيار
الصحيح لا بدّ أن يكون بالرحيل إلى الكوفة عاصمة
أبيه أمير المؤمنين عليه السلام ، ولهذا رفض
الإمام عليه السلام إلحاح أخيه محمّد بن الحنفية
وممانعته من الذهاب إلى الكوفة، كما رفض طلب ابن
عبّاس الذي أشار على الإمام عليه السلام بالذهاب
إلى اليمن.
الخروج من المدينة
لم يكن خروج الإمام الحسين عليه السلام سرِّياً،
ولا خوفاً من السلطة الأموية، فقد كان موكبه من
الضخامة بحيث لا يخفى على الأعين المراقبة، كما
أنه اطمأن إلى أن الوليد لن يُقدم على عمل أرعن
ضده، بل كان يتمنى خروجه لكي لا يبتلى بدمه. ولعل
اختيار الليل كان للتستر على حركة الحرم النبوي
ولكي لا تتصفَّح أعين الناس النساء إذا ما كان
الخروج نهاراً61.
وخرج معه بنو أخيه، وإخوته، وجلّ أهل بيته إلا
محمّد بن الحنفية وعبدالله بن جعفر. وكان معه من
أنصاره عبدالله بن يقطر الحميري الذي اشتهر بأنه
أخو الحسين عليه السلام من الرضاعة، لأن أمه كانت
حاضنة الحسين عليه السلام ، وسليمان بن رزين،
وأسلم بن عمر، وقارب بن عبدالله الدئلي، ومنجح بن
سهم، وكلهم من مواليه واستشهدوا معه في كربلاء.
وسعد بن الحرث الخزاعي، ونصر بن أبي النيزر، وهما
موليان لأمير المؤمنين علي عليه السلام ، والحرث
بن نبهان مولى حمزة بن عبد المطلب، وجون بن حوى
مولى أبي ذر الغفاري62، وعقبة بن سمعان،
الذي أسر في كربلاء بعد نهاية المعركة، فادعى أنه
مملوك فأطلق سراحه63، وهو الذي روى بعض
أحداث الطف في روايات أبي مخنف، وذهب بعض علماء
الإمامية إلى أنه استشهد في كربلاء64.
ولما عزم الحسين عليه السلام على الخروج من
المدينة مضى في جوف الليل إلى قبر أمه فودعها ثم
مضى إلى قبر أخيه الحسن عليه السلام ففعل كذلك. ثم
خرج عليه السلام من المدينة في جوف الليل، وسار
إلى مكة، وهو يقرأ ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا
يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ﴾65.
ولزم الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكّبت
الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير كي لا يلحقك
الطلب، فقال:" لا والله لا أفارقه حتى يقضي
الله ما هو قاض"66.
لماذا لم يتوجه الإمام
الحسين عليه السلام مباشرة إلى العراق؟
لقد كان اختيار (العراق) مركزاً للثورة في ثقافة
الثورة الحسينية منذ بدايتها، بل منذ الإخبار عنها
في ملاحم الأخبار النبوية، وبغض النظر عن ذلك فقد
كانت الكوفة هي الأقرب إلى الاستجابة من بين بقية
المدن، فمكة والمدينة، لم يكن فيهما عشرون رجلاًً
يحبون أهل البيت عليه السلام والبصرة كانت بأغلبها
محسوبة على بني أمية، والشام كانت مغلقة لصالح
الأمويين، والثائرون المحبون لأهل البيت، كانوا من
أهل الكوفة، وقد تمت اتصالات بهم بعد الصلح وبعد
شهادة الإمام الحسن عليه السلام ونصحهم فيها
الإمام الحسين عليه السلام بالانتظار والتربص..
وقد تحدث الإمام الحسين عليه السلام مع أم سلمة عن
مصرعه في العراق67، كذلك مع أخيه عمر الأطرف الأخ
التوأم لرقية، ابن الصهباء التغلبية68.
ولم يتوجه الإمام الحسين عليه السلام مباشرة إلى
العراق لأنه كان يحتاج إلى هامش من الزمن يظهر فيه
العراقيون إرادتهم ورغبتهم وبيعتهم، وبما أن بقاءه
في المدينة انتظاراً لذلك كان سوف يشكل خطراً على
الثورة ويحتمل خنقها في مهدها باغتياله كما تقدم،
فقد فضّل الإمام جعل هذا الهامش الزمني في حركة له
إلى مكة أولاً حيث يلوذ بالبيت ويؤخر عملية
اغتياله وتظهر بيعة أهل العراق له خلال ذلك الزمان
وتنضج ظروف ثورته شعبياً وسياسياً واجتماعياً، بعد
أن استكملت أسبابها ودوافعها الرسالية والعقائدية
في المدينة وحتى قبل وفاة معاوية.
لقد كان القرار بالثورة جاهزاً في المدينة ولم يكن
ينتظر بيعة أهل العراق ولكن بيعة أهل العراق كانت
سوف تقرر مكان وزمان الثورة، وقد صرّح الإمام بذلك
في لقائه مع أخيه عمر الأطرف وأخيه محمّد بن
الحنفية69.
الإمام الحسين عليه
السلام في مكة المكرمة
دخل الإمام الحسين عليه السلام مكة في ليلة الجمعة
3 شعبان70 وهو يقرأ: ﴿وَلَمَّا
تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي
أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ﴾71،
وخرج منها إلى العراق في 8 ذي الحجة، فكان مكثه
فيها مئة وخمسة وعشرين يوماً، وتعتبر من أطول
مراحل الثورة الحسينية، ومع ذلك فهي من أقل
مراحلها نصوصاً، ومعظم الحوادث التي سجلت اقتصرت
على وقائع الأيام الأخيرة منها.
سبب اختيار مكة
لعل موسم الحج كان من أهم أسباب اختيار الإمام
لها، فهو مناسبة جيدة للدعاية السياسية ضد النظام
الأموي وللتحضير لثورته، كذلك مكة أيام الموسم هي
المكان المناسب للقاء بوفود العراق لمعرفة تطور
الوضع هناك ومدى استعداده لقدوم الإمام إليه.
من هنا، نشير إلى أن الإمام عليه السلام لم يقصد
مكة إلا بما هي مكان لموسم الحج، ولم يقصدها
لذاتها فقد كانت مكة منذ الأيام الأولى للبعثة
النبوية إلى مرحلة الهجرة النبوية إلى المدينة إلى
ما جرى بعد ذلك من صراعات وحروب في الجمل وصفين
مركزاً لأعداء أهل البيت عليه السلام ولذرية علي
بن أبي طالب عليه السلام ، فبعد سنتين من شهادة
الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء يقول الإمام
علي بن الحسين زين العابدين " ما بمكة والمدينة
عشرون رجلاًً يحبنا "72.
لقد قتل علي بن أبي طالب عليه السلام رؤوس قريش في
بدر وأحد والأحزاب، وفي معركة الجمل كانت قريش
كلها بكل بطونها موحّدة تحت راية أم المؤمنين
عائشة بنت أبي بكر ضد أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليه السلام ، وقد خسرت قريش فيها أيضاً
الكثير من رموزها، وفي صفين كانت قريش كلها في
جانب الفئة الباغية في معسكر معاوية ضد علي بن أبي
طالب عليه السلام..
لقد أورثت الحوادث هذه كرهاً وبغضاً لعلي بن أبي
طالب عليه السلام وأولاده في قلوب المكيين73
مما يحدو بنا إلى القول إن ما ورد من التفاف (أهل
مكة) حول الإمام الحسين عليه السلام ، وقد فرحوا
به فرحاًً شديداًً وعكوفهم عليه ووفودهم إليه
وجلوسهم حواليه يستمعون كلامه ويضبطون ما يروون
عنه74، إنما يراد به الحجيج والوافدون إلى مكة من
أطراف العالم الإسلامي وقد ألمح إلى ذلك بعضهم وإن
جزئياً 75.
نزل الإمام الحسين عليه السلام في منزل عمه العباس
بن عبد المطلب76، في شعب علي77،
فلم يكن الإمام عليه السلام راغباً في توريط أحدٍ
من الناس في مشاكل مع الأمويين فيما لو نزل عنده،
كما أن منازل بني هاشم كان قد باعها عقيل في خلال
الهجرة النبوية في المدينة، لأن قريش كانت تصادر
أموالهم ودورهم، ففضَّل بيعها، والظاهر أن ذلك كان
برضاهم78، إلا أن في لسان النبي صلى
الله عليه وآله وسلم "وهل ترك لنا عقيل منزلاً"
شوب عتب.
* تاريخ النهضة الحسينية. نشر جمعية
المعارف الاسلامية الثقافية. الطبعة الثانية. ص: 85-127.
هوامش
1- أنساب الأشراف 3ص 151.
2- اللهوف 38، وتاريخ الأمم والملوك، 4 ص 352و 356
و 357.
3- تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين عليه
السلام، تحقيق المحمودي 147 و 149 ح 191 و 189،
ومجمع الزوائد 9: 186-187، عن الطبراني في الأوسط.
4- تاريخ الأمم والملوك، 4 ص 288.
5- الفتوح ابن الأعثم، 5ص 23.
6- البداية والنهاية، 8ص 151.
7- مقتل الحسين عليه السلام، أبو مخنف 16.
8- لجميع هذه المطالب: تراجع أمالي الطوسي،
367-368، المجلس ح13، 781ص32- بحار الأنوار 44ص
248، الفتوح لإبن الأعثم، 4ص 325، مثير الأحزان
22، تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام الحسين عليه
السلام تحقيق المحمودي، 175، حديث 135، مجمع
الزوائد 9ص 187-188، بحار الأنوار 41، 295، باب
114 حديث 18، أمالي الصدوق 478، المجلس 87 ح 5 –
دلائل الإمامة، 183-184. ح 101ص6، مستدرك الحاكم
2ص282، مناقب آل أبي طالب 4ص53.
9- - بحار الأنوار ج 44 ص 248 والإرشاد للشيخ
المفيد ص 192 و246 وتاريخ ابن عساكر، م. س. ص 239
ح 283 و212 و 269.
10- شرح نهج البلاغة ج4،ص16.
11- مروج الذهب، 2، 351-352. الأغاني، 6، 356،ذكر
أبي سفيان وخبره ونسبه-.
12- الإحتجاج، ج2، ص22، - 23 وإحقاق الحق ج11،
ص595.
13- الخرائج والجرائح، 2، 811ح 20، وإثبات الهداة
ج2، ص183، ح37، الفصل الثامن.
14- - الإمامة والسياسة، ج 1، ص 182 إلى ص 190.
الفتوح لإبن الأعثم، ج 4 ص 339.
15- الأخبار الطوال، 220. أنساب الأشراف، 3، 151،
حديث12.
16- كتاب سليم بن قيس، ص 166، طبعة طهران، أنساب
الأشراف ج3، ص152ح13 والأخبار الطوال 224.
17- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 44 - ص
212 – 215 عن رجال الكشي.
18- يعنى ما في قوله تعالى } لإيلاف قريش إيلافهم
رحلة الشتاء والصيف{.
19- في الإحتجاج ص 153:أردت أن أعيب علياً.
20- نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 327 الطبعة
الأولى أو ج18، ص327، الطبعة الجديدة وناسخ
التواريخ ج 1 ص 195. اختيار معرفة الرجال ج1،
ص252-259، رقم 99 والإحتجاج ج2، ص19. بحار الأنوار
- العلامة المجلسي - ج 44 - ص 212 – 215 محمّد
الباقر البهبودي ـ الثانية المصححة ـ1403 - 1983 م
ـ مؤسسة الوفاء - بيروت - لبنان ـ دار إحياء
التراث العربي، عن رجال الكشي.
21- بحار الأنوار 44 ص 134.
22- دلائل الإمامة، 161و 162و الكافي ج1ص 302و303
ح3. وتاريخ مدينة دمشق 13 ص 291.
23-الإمامة والسياسة، ج 1 ص 284 والدرجات الرفيعة
ص 334 والغدير ج 10 ص 161.
24- في الإحتجاج: ألف رجل.
25- كتاب سليم بن قيس - تحقيق محمّد باقر الأنصاري
- ص 320.
26- أنساب الأشراف، ج3، ص156 ح15.
27- تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين، تحقيق
المحمودي، 200 ح255، والإمامة والسياسة، ج1، ص179.
28- أنساب الأشراف، ج3، ص152 ح13.
29- زهر الآداب، ج1، ص101. الأخبار الطوال، 224.
30- الأخبار الطوال، ص220، والإمامة والسياسة، ج1،
ص187.
31- الأخبار الطوال، ص220. الإرشاد، ص221.
32- أنساب الأشراف، ج3، ص150، ح10.
33- الكافي، ج8، ص330، ح506
34- الأخبار الطوال، ص220.
35- الفتوح لإبن الأعثم، ج4، ص289، والطبري، ج4،
ص122، وأنساب الأشراف، ج3، ص51، ح61، وتاريخ مدينة
دمشق، ج13، ص267.
36- تهذيب تاريخ دمشق: ج 4 ص 230، وعيون الأخبار
لابن قتيبة: ج 2 ص 314.
37- ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من تاريخ
دمشقبتحقيق المحمودي-: ص 197، أنساب الأشراف، 3ص
151، ح12و13.
38- الأخبار الطوال: ص 221 ص 222. و220، أنساب
الأشراف، 3ص 150، ح10.
39- إختيار معرفة الرجال، ج1، ص325، ح176.
40- - البداية والنهاية، 8: 144.
41- محاسن الوسائل في معرفة الأوائل: 185.
42- تاريخ اليعقوبي، ج2ص 241.
43- الإمامة والسياسة، ج1، ص206، الفتوح لإبن
الأعثم، ج5، ص10.
44- الكامل في التاريخ، ج4، ص14-15، وتاريخ الأمم
والملوك، ج4، ص250-251، والإمامة والسياسة، ج5،
ص10-13.
45- الفتوح لإبن الأعثم، ج5، ص13، والإرشاد
للمفيد، ص221، وتاريخ الأمم والملوك، ج4، ص251.
46- الفتوح، لإبن الأعثم، ج 5 ص 14.
47- الفتوح، ج5، ص16-22، تاريخ الأمم والملوك، ج4،
ص251و252، والإمامة والسياسة، ج1، ص206، الإرشاد
ص221و222، الفتوح ابن الأعثم، ج5، ص13-14.
48- الفتوح، ج5، ص18.
49- تذكرة الخواص ص214.
50- بحار الأنوار - العلامة المجلسي ج 44 ص 328.
51- الفتوح لابن الأعثم، ج5، ص19-20.
52- - بحار الأنوار - العلامة المجلسي ج 44 ص 328.
53- بحار الأنوار - العلامة المجلسي ج 44 ص 328.
54- الإرشاد - الشيخ المفيد ج 2 ص 34.
55- بحار الأنوار - العلامة المجلسي ج 44 ص 328.
56- بحار الأنوار - العلامة المجلسي ج 44 ص 328.
57- الفتوح لابن الأعثم، ج5، ص18، وتاريخ ابن
عساكر، ترجمة الإمام الحسين تحقيق المحمودي، ص200،
ح255.
58- الإرشاد، ص221.
59- الفتوح لابن الأعثم، 5ص 18.
60- تاريخ اليعقوبي، 2ص 248- 249.
61- الإرشاد، ص222 والأخبار الطوال، 228، والطبري،
ج4، ص253.
62- إبصار العين في أنصار الحسين،
ص93-94-95-96-97-98-و176-177 وتنقيح المقال، ج1،
ص125و 248، وج2، ص81،
63- الطبري، ج4، ص347، ونفس المهموم ص298، وتنقيح
المقال، ج2، ص254.
64- البحار، ج101، ص336-341، ومعجم رجال الحديث
للسيد الخوئي، ج11، ص154، ح7723، ومستدركات علم
رجال الحديث للشيخ علي النمازي، ج5، ص248.
65- القصص 28: 21.
66- الإرشاد - الشيخ المفيد ج 2 ص 34.
67- - بحار الأنوار، ج44، ص331-332، باب27،
والخرائج والجرائح،ج1، ص253-254، باب 4 ح7.
68- اللهوف في قتلى الطفوف، 11-12، وسفينة البحار،
ج2، ص272. وبحار الأنوار، ج42، 93، باب 120، ح20،
والأخبار الطوال 306-307.
69- الفتوح لإبن الأعثم، ج5 ص20-21، وبحار
الأنوار، ج44، ص329-330، باب 37.
70- البداية والنهاية، ص160، وإعلام الورى، 223،
وأنساب الأشراف، ج3، ص1297.
71- الإرشاد - الشيخ المفيد ج 2 ص 34.
72- الغارات 393، وشرح النهج لابن أبي الحديد ج4،
ص104، وبحار الأنوار ج46، 2143.
73- بحار الأنوار، ج19، ص206، وج29، ص621-628-559
و ص482-280-281،ج43، ص160، ج20، ص50-51، وأنساب
القرشيين، ص193، الإرشاد للمفيد، ص46، الإحتجاج،
ج1، ص147- نهج البلاغة، 409 رقم 36 وشرح النهج
لابن أبي الحديد، ج4، ص104.
74- البداية والنهاية، ج8، ص153، الإرشاد، 223
الفتوح لإبن الأعثم، ج5، ص26.
75- الإرشاد للمفيد، 223، والفصول المهمة، ص183.
76- تاريخ الإسلام حوادث سنة 61، ص8، وتهذيب
الكمال، ج4، ص489، وتاريخ دمشق ج14، ص182.
77- الأخبار الطوال، 229.
78- مغازي الواقدي، ج2، ص829.
|