الخواص
والتخلي عن الحق
السؤال المطروح هو:لماذا آلت الأمور إلى ذلك المآل
الذي يجعل الخواص يتخلون عن الحق ؟ إنني حينما
انظر أرى أن ذلك يعزى إلى الخواص من أنصار الحق
الذين سلك بعضهم مسلكاً اتسم بغاية التخاذل، من
أمثال شريح القاضي!
وشريح هذا لم يكن من بني أمية وكان يعرف حقيقة
الأوضاع ويدرك أن الحق مع من، فحينما جاءوا بهاني
بن عروة وشجّوا رأسه وجرحوا وجهه وألقوه في السجن
هبّت عشيرته وحاصرت قصر ابن زياد، فخشي ابن زياد
اجتماعهم ، إذ يرون أن قاتل هاني هو ابن زياد،
لذلك أمر شريحاً أن يذهب ليرى بعينه أن هاني حي.
ااطّلع شريح على حياة هاني بنفسه ولكنه وجده
مجروحاً، فيما أن رأى هاني شريحاً القاضي حتى
استغاث بالمسلمين "مخاطباً لشريح"أين قومي؟ هل
ماتوا؟ لماذا لا يأتون وينقذوني مما أنا فيه؟
يقول شريح:أردت أن اذهب وأبلغ المجتمعين حول قصر
الإمارة بمقالة هاني، لكن للأسف كان هناك جاسوس
ابن زياد، فلم أستطع !ماذا يعني "لم أستطع"؟ يعني
ترجيح الدنيا على الدين.
لعلّ شريحاً لو كان فعل ذلك لتغيّر التاريخ، لو
قال للناس إن هاني حي ولكنه في السجن، وابن زياد
يريد قتله، ولم يكن ابن زياد قد استولى على الأمور
بعد، لهجموا وأنقذوا هاني وأصبحوا أكثر قوة وشكيمة
ولقبضوا على ابن زياد وقتلوه أو أخرجوه من هناك،
ولاستتب أمر الكوفة للحسين عليه السلام ولما وقعت
حادثة كربلاء ولو لم تقع حادثة كربلاء لانتهى
الأمر إلى استلام الإمام الحسين لزمام الحكم ولو
أن هذا الحكم استمر تسعة أشهر ـ وربما كان يمتد
لفترة أطول ـ لكانت له بركة كبيرة في التاريخ.
قد تؤدي حركة ما أحيانا إلى تبديل وجه التاريخ،
وقد تقود حركة أخرى مغلوطة وناتجة عن الخوف والضعف
وحب الدنيا والحرص على الحياة، إلى جعل التاريخ
يتمرغ في مهاوي الضياع، أنت "يا شريح القاضي"
لماذا لم تشهد بالحق حينما رأيت هاني على تلك
الحالة؟!هذا هو دور الخواص الذين يفضلون الدنيا
على الدين.
حينما أمر ابن زياد رؤساء القبائل أن يذهبوا
ويعملوا على تفريق الناس من حول مسلم، لماذا
أطاعوا أمره؟ فهم لم يكونوا بأجمعهم من الأمويين،
ولم يكونوا قد قدموا من الشام، بل أن بعضهم كان
ممن كتب الرسائل إلى الإمام الحسين عليه السلام
كشبث بن ربعي الذي كان قد كتب له رسالة ودعاه إلى
القدوم، هذا الرجل كان من جملة الذين أمرهم ابن
زياد بالسعي لتفريق الناس، فذهب وأخذ يثبّط الناس
ويستخدم أساليب التهديد والتخويف والإغراء، وساهم
في تفريق الناس عنه.لماذا فعلوا هكذا؟
لو أن شخصاً كشبث بن ربعي خشي الله في لحظة
مصيرية، بدلا من خشية ابن زياد، لتبدّل التاريخ
!لكن هؤلاء انبروا لتثبيط الناس، فتفرّق العوام.
ولكن لماذا تفرّق الخواص المؤمنون المحيطون بمسلم؟
مع أنهم كان من بينهم شخصيات خيّرة وصالحة وبعضهم
سار في ما بعد إلى كربلاء واستشهد هناك، لكنهم
أخطأوا في ذلك الموقف، من الطبيعي أن الذين
استشهدوا في كربلاء قد كفّروا عن خطئهم ذلك.ونحن
هنا لا نتحدث عنهم ولا نذكر أسمائهم، ولكن أيضاً
كان من بينهم من لم يأت إلى كربلاء! لم يستطيعوا
أو لم يوفقوا، لكنهم انخرطوا في ما بعد في صفوف
التوابين.
ولكن ما فائدة ذلك بعدما وقعت فاجعة كربلاء وقُتل
سبط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبدأت حركة
التاريخ بالانتكاس؟ ولهذا السبب كان عدد التوّابين
عدة أضعاف شهداء كربلاء، شهداء كربلاء صُرعوا كلهم
في يوم واحد، والتوابين صُرعوا كلهم في يوم واحد
أيضاً، ولكن تلاحظون أن الأثر الذي تركه التوّابون
في التاريخ لا يعدل واحداً من ألف مما خلفه شهداء
كربلاء! وذلك لأنهم لم يبادروا إلى ذلك العمل في
وقته ولان تشخيصهم وقرارهم قد جاء متأخراً، لماذا
تركوا مسلم وحده بعدما جاء إليهم كمندوب عن الإمام
الحسين عليه السلام ، وبعدما بايعوه وأنا هنا لا
أخاطب العوام بل اعني الخواص، لماذا حينما جنّ
عليه الليل تركوه يلتجىء إلى دار طوعة؟!
لو أن الخواص لم يتخلوا عن مسلم، ولو وقف إلى
جانبه على سبيل المثال مائة رجل، وآووه في دار
أحدهم ودافعوا عنه، ومسلم حتى حينما كان وحده
حينما أرادوا اعتقاله بقي يقاوم عدة ساعات،
واستطاع بعد أن هجموا عليه عدة مرات ورغم كثرة
عددهم أن يردهم على أعقابهم، ولو كان معه مائة رجل
هل كان بإمكانهم القبض عليه؟ كلا لأن الناس سيهبون
لنجدتهم.
إذن الخواص قصّروا هنا إذ لم يهبوا لمؤازرة مسلم،
لاحظوا أينما تذهبوا تصطدمون بموقف الخواص، من
الواضح أن قرار الخواص في الوقت المناسب، ورؤيتهم
الصائبة للأمور في الوقت المناسب وتجاوزهم عن
الدنيا في اللحظة المناسبة، وموقفهم في سبيل الله
في الفرصة المؤاتية، هو الذي يستنقذ التاريخ ويصون
القيم، وهذا ما يوجب اتخاذ الموقف المناسب في
اللحظة المناسبة، أما إذا فات الأوان فلا جدوى في
ما وراء ذلك.
لو أن الخواص شخّصوا ما ينبغي عمله في الظرف
المناسب، وطبّقوا ذلك لتغير وجه التاريخ، ولما سيق
أمثال الحسين بن علي إلى ميادين كميدان كربلاء،
وإذا كان الخواص قد أساءوا الفهم، أو أبطأوا في
الفهم.
فاعلموا أن التاريخ ستتكرر فيه وقائع كواقعة
كربلاء، وعد الله تعالى بنصرة من ينصره، أن قام
أحد لله وبذل جهده يكون النصر حليفه.
*الثورة الحسينية,نشر
جمعية المعارف الاسلامية الثقافية,الطبعة الاولى
نيسان,2001/1422-ص:52 |