العبّاس في نظر الأئمّة
عليهم السّلام
إنّي لا أحسب القارئ في حاجةٍ إلى الإفاضة في هذه الغاية بعد ما أوقفناه على مكانة
أبي الفضل عليه السّلام من العلم والتّقى ، والملكات الفاضلة ؛ من إباء وشمم ،
وتضحية في سبيل الهدى ، وتهالك في العبادة ؛ فإنّ أئمّة الهدى من أهل البيت عليهم
السّلام يُقدّرون لمَن هو دونه في تلكم الأحوال فضله ، فكيف به وهو من لُحمتهم
وفرعِ أرومتهم ، وغصن باسق في دوحتهم ؟! وقد أثبت له الإمام السّجاد عليه السّلام
منزلة كبرى لم يَنلها غيره من الشُّهداء ، ساوى بها عمّه الطيّار ، فقال عليه
السّلام :
رحمَ اللّهُ عمِّي العبّاسَ بنَ عليٍّ ، فلقد آثرَ وأبلَى ، وفدَى أخاه بنفسِهِ
حتّى قُطِعتْ يَداهُ ، فأبدلَهُ اللّهُ عزّ وجل جناحينِ يطيرُ بهمَا مع الملائكةِ
في الجنّةِ ، كما جعلَ لجعْفرِ بنِ أبي طالبٍ . إنّ للعبّاسِ عندَ اللّهِ تباركَ
وتعالى منزلةً يَغبطُهُ عليها جميعُ الشُّهداءِ يومَ القيامةِ.
ولفظ ( الجميع ) يشمل مثل حمزة وجعفر الشاهدين للأنبياء بالتبليغ وأداء الرسالة ،
وقد نفى البُعد عنه العلاّمة المُحقّق المُتبحّر في الكبريت الأحمر ص47 ج3 .
ولعلّ ما جاء في زيارة الشُّهداء يشهد له : السّلامُ عليكُمْ أيُّها
الرَّبّانيّونَ ، أنتُمْ لنا فرطٌ وسَلفٌ ونحنُ لكُمْ أتباعٌ وأنصارٌ ، أنتُمْ
سادةُ الشُّهداءِ في الدُّنيا والآخرةِ . وكذلك قوله عليه السّلام فيهم : إنّهم
لم يسبقهم سابقٌ ، ولا يلحقهم لاحقٌ . فقد أثبت لهم السّيادة على جميع الشُّهداء ،
أنّهم لم يسبقهم ولا يلحقهم أيُّ أحدٍ ، وأبو الفضل في جملتهم بهذا التفضيل ، وقد
انفرد عنهم بما أثبته له الإمام السّجاد عليه السّلام من المنزلة التي لم تكن لأيِّ
شهيد .
ولهذه الغايات الثمينة والمراتب العُليا ؛ كان أهلُ البيت عليهم السّلام يُدخلونه
في أعالي اُمورهم ما لا يتدخّل فيه إنسانٌ عادي ، فمِن ذلك : مُشاطرتُه الحسينَ
عليه السّلام في غسل الحسن عليه السّلام .
وأنتَ بعد ما علمت مرتبة الإمامة ، وموقف صاحبها من العظمة ، وأنّه لا يلي أمره
إلاّ إمامٌ مثله ، فلا ندحة لك إلاّ الإيمان بأنّ مَن له أيّ تدخل في ذلك ـ بالخدمة
من جلب الماء وما يقتضيه الحال ـ [ هو ] أعظم رجلٍ في العالم بعد أئمّة الدِّين
عليهم السّلام ؛ فإنّ جثمان المعصوم عليه السّلام عند سيره إلى المبدأ الأعلى ـ
تقدّست أسماؤه ـ لا يُمكن أنْ يقربَ أو ينظر إليه مَن تقاعس عن تلك المرتبة ؛ إذ هو
مقامُ قابَ قوسين أو أدنى ، ذلك الذي لم يطق الروح الأمين أنْ يصل إليه حتّى تقهقر
، وغاب النّبيُّ الأقدس في سبحات الملكوت والجلال وحدهُ إلى أنْ وقف الموقف الرهيب
. وهكذا خلفاء النّبيِّ صلّى الله عليه وآله المشاركون له في المآثر كُلِّها ما خلا
النّبوَّة والأزواج ، ومنه حال انقطاعهم عن عالَم الوجود بانتهاء أمد الفيض
المُقدّس .
وممّا يشهد له أنّ الفضل بن العبّاس بن عبد المُطّلب كان يحمل الماء عند تغسيل
النّبيِّ صلّى الله عليه وآله ، معاوناً لأمير المؤمنين عليه السّلام على غسله ،
ولكنّه عصبَ عينيه ؛ خشية العمَى إنْ وقع نظرُهُ على ذلك الجسد الطّاهر .
ومثله ما جاء في الأثر عن الإشراف على ضريح رسول اللّه صلّى الله عليه وآله ؛ حذراً
أنْ يرى النّاظر شيئاً فيعمى ، وقد اشتهر ذلك بين أهل المدينة ، فكان إذا سقط في
الضريح شيءٌ أنزلوا صبيّاً وشدّوا عينيه بعصابة فيخرجه .
وهذه أسرار لا تصل إليها أفكار البشر ، وليس لنا إلاّ التسليم على الجملة ، ولا
سبيل لنا إلى الإنكار بمجرّد بُعدنا عن إدراك مثلها ، خصوصاً بعد استفاضة النّقل في
أنّ للنّبيِّ صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السّلام بعد وفاتهم أحوالاً
غريبةً ليس لسائر الخلق معهم شركة ، كحرمة لحومهم على الأرض ، وصعود أجسادهم إلى
السّماء ، ورؤية بعضهم بعضاً ، وإحيائهم الأموات منهم بالأجساد الأصليّة عند
الاقتضاء ؛ إذ لا يمنع العقل منه مع دلالة النّقل الكثير عليه واعتراف الأصحاب به ،
فيصار التحصّل : إنّ الحواس الظاهرة العاديّة لا تتحمّل مثل تلك الأمثلة القُدسية ـ
وهي في حال صعودها إلى سبحات القُدس ـ إلاّ نفوس المعصومين عليهم السّلام بعضها مع
بعض دون غيرهم ، مهما بلغ من الخشوع والطاعة .
لكنّ ( عباس المعرفة ) الذي منحه الإمام عليه السّلام في الزيارة أسمى صفة حظي بها
الأنبياء والمقرّبون عليهم السّلام ، وهي : ( العبد الصالح ) تسنّى له التوصّل إلى
ذلك المحل الأقدس من دون أنْ يُذكر له تعصيبُ عينٍ أو إغضاءُ طرفٍ ، فشارك السّبط
الشهيد عليه السّلام ، والرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله ، ووصيه المُقدّم مع
الروح الأمين عليه السّلام ، وجملةَ الملائكة في غسل الإمام المجتبى الحسن السّبط
صلوات اللّه عليهم أجمعين . وهذه هي المنزلة الكبرى التي لا يحظى بها إلاّ ذَوو
النّفوس القُدسيّة من الحُجج المعصومين عليهم السّلام ، ولا غرو إنْ غبط أبا الفضل
الصّدِّيقون والشُّهداء الصالحون .
وإذا قرأنا قول الحسين للعبّاس عليهما السّلام ، لمّا زحف القوم على مخيّمه عشيّة
التاسع من المُحرّم : اركَبْ بنفسِي أنتَ يا أخي حتّى تَلقاهُمْ . . . وتسألَهُمْ
عمّا جاءَ بِهم . فاستقبلهم العبّاس في عشرين فارساً ، فيهم حبيب وزهير ، وسألهم عن
ذلك ، فقالوا : إنّ الأمير يأمر إمّا النّزول على حكمه أو المُنازلة .
فأخبر الحسينَ عليه السّلام ، فأرجعه ليُرجئهم إلى غد.1
1-الخصائص العبّاسيّة
/ محمّد إبراهيم الكلباسي النجفي ص115_118.
|