المقالات
محطات من محرم الحرام
مسلم بن عقيل ثبات وشهادة
علي الأكبر(ع) تضحية ووفاء
العباس (ع) تضحية ووفاء
الطالب بدم المقتول بكربلاء
مصائب النسوة والأطفال
تاريخ النهضة الحسينية
في درب الشهادة
رجال حول الحسين
سفير الحسين
عاشوراء والإمام الخميني
مواقف خالدة
رحلة السبي
خصائص ومرتكزات
شهادة الإمام السجاد
محطات قدسية
مجالس ومأتم
معرض الصور
لوحات عاشورائية
مراقد وأماكن مقدسة
مخطوطات
المكتبة
المكتبة الصوتية
المكتبة المرئية
 
 

وداع آخر

ثمَّ إنَّه عليه السلام عادَ إلى الخَيمَةِ، وودَّعَ عِيالَهُ وأهلَ بيتِهِ مرَّةً أخرى وأمرَهمْ بالصبرِ، وقالَ لهُم: "اِستعدّوا للبلاءِ، واعلمُوا أنَّ اللهَ تعالَى حاميكُمْ وحافِظُكُمْ، وسيُنجيْكُم مِنْ شرِّ الأعداءِ، ويَجْعلُ عاقِبةَ أمرِكُم إلى خَيرٍ، ويعذِّبُ عَدوَّكُم بأنواعِ العذابِ، ويعوّضُكُم عن البَليَّةِ بأنواعِ النِّعمِ والكرامةِ، فلا تَشُكُّوا، ولا تقولُوا بأَلسنَتِكُم ما يُنقِصُ مِنْ قَدرِكُم".

فصاحَ عُمرُ بنُ سعدٍ بقومِهِ: ويحكُم، اهجمُوا عليهِ ما دامَ مَشغولاً بنفسهِ وحرَمِهِ، واللهِ، إنْ فَرَغَ لكُمْ لا تمتازُ مَيمَنَتُكُم عنْ مَيْسَرَتِكُم.

فَحَمَلوا عليهِ يَرْمونَه بالسِّهامِ، حتَّى تخالَفَتِ السِّهَامُ بينَ أطنابِ المخيَّمِ، وشكَّ سَهمٌ بعضَ أُزُرِ النساءِ، فدُهِشنَ وأُرعِبنَ وصِحْنَ ودَخلْنَ الخيمةَ، وهنَّ ينظُرْنَ إلى الحسينَ عليه السلام كيفَ يصنعُ.

فحَمَلَ على القومِ كاللَّيثِ الغضبانِ، فلا يلحَقُ أَحداً إلَّا ضربه بسيفِهِ فقتلَهُ، أو طعنَهُ برمحِهِ فصَرَعَهُ، والسِهامُ تأخذُهُ منْ كُلِّ جَانِبٍ وهو يتَّقيْهَا بصدرِهِ ونحرِهِ، ويقولُ: "يا أُمَّةَ السُوءِ، بئسَمَا خلّفتُمْ محمّداً في عِترتِهِ، أمَا إنَّكُم لنْ تَقتلُوا بَعديْ عَبداً مِنْ عبادَ اللهِ فتهابُوا قتلَهُ، بلْ يهونُ عليكُم ذلكَ عندَ قتلِكُم إيَّايَ، وأيمُ الله إنّي لأَرجو أَن يُكرمَني الله بالشَّهادةِ ثمَّ ينتقِمُ ليْ منكُم مِنْ حيثُ لا تَشعُرونَ".

فنادَاهُ الحُصَيْنُ بنُ مَالِكٍ: وبماذا يَنْتَقِمُ لكَ منَّا يا ابنَ فَاطِمَة؟

فقال الحسين عليه السلام: "يُلقِي بَأْسَكُم بَيْنَكُم, ويَسْفِكُ دِمَاءَكُم, ثُمَّ يَصبُّ عَليْكُم العَذابَ الألِيم".

ورَجَعَ عليه السلام إلى مركزِهِ، وهو يُكثِرُ مِنْ قَولِ: "لا حَولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ العليِّ العظيمِ".

ورماهُ أبو الحتوفِ الجُعفيُّ بسَهمٍ وقَعَ في جبهتِهِ المقدّسةِ فنَزَعَهُ، وسالَتِ الدماءُ على وجهِهِ وكريمتِهِ، فقالَ: "اللهُمَّ إنَّكَ تَرى مَا أَنَا فيهِ مِن عبادِكَ هؤلاءِ العُصَاةِ، اللهمَّ أحصِهمْ عَدَداً، واقتُلْهمْ بَدَدَاً، ولا تذَرْ على وجهِ الأرضِ منهمْ أحَداً، ولا تغفرْ لهُم أبَداً".

ثمَّ لمْ يَزَلْ يُقاتِلُ حتَّى أصابتْهُ جِراحاتٌ كثيرةٌ... ولمَّا ضعُفَ عن القتالِ وقفَ ليستريحَ هُنَيْهَة، فبينمَا هو واقفٌ إذ أتاهُ حَجَرٌ فوقعَ في جبهتِهِ الشريفةِ، فسَالتْ الدماءُ على وجهِهِ، فأخذَ الثوبَ ليمسحَ الدمَ عنْ وجهِهِ وعينَيهِ، إذ أتاه سهمٌ محدَّدٌ مسمومٌ لهُ ثَلاثُ شُعَبٍ فوقعَ على صدرِهِ...

شال الثوب يمسح دم جبينه           او شابح للخيم والحرب عينه

اتـــاري احســـين امعــينينه          رموه ابسهم لكن ناجع ابْسَمْ

فقالَ الحسينُ عليه السلام: "باسمِ اللهِ وباللهِ وعلى ملَّةِ رسولِ اللهِ".

ورفَعَ رأسَهُ إلى السماءِ وقالَ: "إلهي، إنَّكَ تعلمُ أنّهمْ يَقْتُلونَ رَجُلاً ليسَ على وجهِ الأرضِ ابنُ (بنت) نبيٍّ غيرَه".

ثمَّ أخذَ السَّهمَ فأخرجَهُ... فانبعثَ الدمُ كالميزابِ..

فوضَعَ يدَهُ تحتَ الجرحِ، فلمَّا امتلأَتْ دَماً رمَى بهِ نحوَ السماءِ وقالَ: "هوَّنَ عليَّ مَا نَزَلَ بي أنَّهُ بعينِ اللهِ".. فلَمْ تَسقُطْ من ذلكَ الدمِ قطرةٌ إلى الأرضِ.

ثمَّ وضعَ يدَهُ ثانياً، فلمَّا امتلأَتْ لطَّخَ بهِ رأسَهُ ووجهَهُ، وقالَ: "هكَذَا أكونُ حتَّى ألقَى اللهَ وجَدِّي رسولَ اللهِ وأنَا مخضوبٌ بدَمِي، وأقولُ: يَا جدِّي، قتَلَنِي فلانٌ وفلانٌ".

ولمَّا أُثخِنَ بالجراح طَعَنَه صَالحُ بنُ وَهَب في خَاصرتهِ طَعنةً فَسَقَطَ عن فَرَسِه إِلى الأَرضِ على خدِّهِ الأَيمن وهوَ يقول: "بِسمِ اللهِ وبالله وعَلَى مِلَّةِ رسولِ الله"...ثمَّ قامّ صلوات الله عليه فَقَاتَلَ راجِلاً قِتَالَ الفَارِسِ الشجاعِ وَقَدْ أُثْخِنَ بالجِراح, وهو يَشُدُّ على الخيلِ ويقول: "ويْحَكُم أَعَلَى قَتْلي تَجْتَمِعُون؟!".

وأَعياهُ نزفُ الدمِ، فجلسَ على الأرضِ...فانتهَى إليهِ مالكُ بنُ النِّسْرِ الكِنْدِيُّ في تلكَ الحالِ، وضربَهُ على رأسِهِ الشريف بالسيفِ، فامتَلأَ البُرنُسُ دَماً..


* المصيبة الراتبة. نشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية. الطبعة التاسعة.