المقالات
محطات من محرم الحرام
مسلم بن عقيل ثبات وشهادة
علي الأكبر(ع) تضحية ووفاء
العباس (ع) تضحية ووفاء
الطالب بدم المقتول بكربلاء
مصائب النسوة والأطفال
تاريخ النهضة الحسينية
في درب الشهادة
رجال حول الحسين
سفير الحسين
عاشوراء والإمام الخميني
مواقف خالدة
رحلة السبي
خصائص ومرتكزات
شهادة الإمام السجاد
محطات قدسية
مجالس ومأتم
معرض الصور
لوحات عاشورائية
مراقد وأماكن مقدسة
مخطوطات
المكتبة
المكتبة الصوتية
المكتبة المرئية
 
 

تطور محاضرة المنبر الحسيني

جرى الكلام في الدرس السابق عن محاضرة المنبر الحسيني، وأهميتها في تميّز الخطباء، ثم ذكرنا الخطوات التي نجدها الطريقة الأفضل لإعداد هذه المحاضرة. وبدأنا بعنوان المحاضرة وقلنا أن الأفضل أن تكون آية قرآنية كريمة. وكانت مجالس الشيخ أحمد الوائلي بهذه الميزة قد فرضت جوّاً يؤيدها في أعراف المنبر.

والواقع أن الشيخ أحمد الوائلي أحدث نقلة في موضوعات المنبر الحسيني حينما بدأ بآية قرآنية، وكان قد مرّ بنا في دروس سابقة أن الشيخ كاظم سبتي هو أول من بدأ محاضراته بقطعة من نهج البلاغة، ولم يكن هذا الشيء مألوفاً سابقاً، إذ كان خطيب المنبر الحسيني يقرأ القصيدة ويأتي بخبر تأريخي أو بقصة بسيطة، أو بموعظة ثم يُعرِّج على كربلاء، وكان الشيخ كاظم سبتي يحفظ نهج البلاغة عن ظهر قلب، فدائماً يبدأ بقطع من نهج البلاغة ويشرحها وهذه الخطب هي مادة غنية يستطيع الإنسان أن يتحدث عن .... الكثير من المفاهيم والأفكار. (راجع كتاب ماضي النجف وحاضرها للشيخ جعفر محبوبة وهو يترجم للشيخ كاظم سبتي). كما كان لشيوغ المنبر البارزين إبداعاتهم في هذا المجال، وللأمانة التاريخية، فإن الشيخ الوائلي لم يكن هو أول خطيب يفتتح محاضرات بآية من القرآن الكريم، فقد سمعت العلامة المرحوم السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب (ت: 1414-1994) يقول: كان الشيخ محمد علي اليعقوبي تارة يبدأ مجالسه بآية وتارة بحديث وأخرى بقطعة من نهج البلاغة. أما الشيخ الوائلي فقد ألتزم الآية القرآنية عنواناً لمجالسه بصورة مستمرة حتى صارت سمةً له.

يقول الشيخ الوائلي: في كتابه (تجاربي مع المنبر الحسيني) أنه قد قال له أحد أصحاب المكتبات: أن عنده أجزاءً من التفسير الكبير للفخر الرازي لكنه ليس كاملاً، ولما قرأ الشيخ الوائلي الكتاب، وجد فيه أبعاداً غريبة ورائعة في تفسير كل آية؛ حيث تفسر إلى عدة آراء وأبعاد، مما جعل الكتاب يجذبه بشدة، يقول الشيخ: لم أترك هذا الكتاب إلا عندما أنهيته، ومنذ ذلك الوقت تغير أسلوب الشيخ الوائلي كثيراً، وصار عنده توجه آخر حيث أخذ يعتمد على هذا التفسير وبشكل بارز.

إن مما يميز محاضرة وموضوع المنبر الحسيني أن على الخطيب أن يأتي بشواهد من الأدب أو التاريخ أو العلم أو الحديث على القول الأول، وشواهد أخرى على القول الثاني وشواهد ثالثة على القول الثالث، وهكذا وذلك حينما يذكر الآراء المختلفة في تفسير آية ما. حتى يكتمل المجلس ويشبع الموضوع. مثلاً، عندما يتحدّث الخطيب عن العلم، فإن عليه أن يأتي بأحاديث حول العلم وبقصص وشعر حول العلم، وقد يأتي بها من عدّة مصادر، لكي لا يكون هناك ملل أو سأم يبعد المستمعين عن الخطيب ومحاضرته، وحتى يتماسك الموضوع، ويخرج المستمع بوضوح في الرؤية. بل ولكي يبقى روّاد المجالس الحسينية مستذكرين للمطالب الأساسية في الموضوع، عبر تذكرهم القصص والشواهد التاريخية والأدبية. ولهذا كان لا بد من الاهتمام بالمصادر التي توفّر هذه الشواهد وسيأتي الحديث عنها. إن أفضل ما يمكن للخطيب أن ينطلق منه القرآن الكريم؛ الذي عالج كل ما يحتاجه الإنسان، حيث أكد على الأخلاق والآداب وقصص الأنبياء ومختلف شؤون الحياة، هذا في المجالس العامة. أما بالنسبة لمجالس المناسبات أي التي تعقد في ذكريات المعصومين عليهم السلام. فإنها تعتمد على أمور:

1- العنوان
فإن على الخطيب أن يختار العنوان الملائم للمناسبة، ففي استشهاد الإمام علي عليه السلام يختار الخطيب آية قرآنية نزلت في حقّه عليه السلام أو حديثاً في حقه أو كلمة من كلماته عليه السلام. وفي استشهاد الزهراء عليها السلام يجب أن يختار الخطيب قولاً للسيدة الزهراء عليها السلام أو مقطعاً من خطبتها أو قولاً لأمير المؤمنين أو قولاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حقها عليها السلام أو قول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحسن عليه السلام أو الحسين عليه السلام في مناسبات الحسنين عليهما السلام. إن مجالس استشهاد المعصومين عليهم السلام ينبغي أن يبدأ بحديث أو بآية قرآنية تتعلق بأهل البيت عليهم السلام مثلاً الآية التي تقول ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا? أو آية المباهلة أو الإطعام وذلك حسب المناسبة. أما في المجالس العامة فإن أفضل ما يبدأ الخطيب به هو القرآن الكريم كما ذكرنا ذلك، لأن القرآن له جاذبية خاصة وقوة وتأثير خاص في النفوس.

إذاً الخطيب حُرٌّ بأن يختار العنوان الذي يراه مناسباً، لكن أفضل العناوين القرآن الكريم، ومع اتساع مجالسنا وحضور مسلمين من كل المذاهب، فإن القرآن هو أفضل ما يمكن أن يوحِّد المسلمين.

2- التمهيد

هذا ما يتعلق بالعنوان، وبعد ذلك على الخطيب أن يبدأ بالتمهيد فإذا كان موضوعه حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يأتي بعنوان ينطلق بآية فيها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر مثل قوله تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} وبذا يهيئ الخطيب ذهن المستمع للموضوع الذي يريد أن يتحدث عنه. ثم لا بد بعد ذكر العنوان من تمهيد مناسب ينبّه المستمعين إلى المحاضرة، كأن يقول مثلاً كتمهيد لموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن الإسلام جاء هبة ونعمة من الله تعالى لكي يسعد هذا الإنسان، إذا اتبع قيم الإسلام ومفاهيمه ومبادئه فإنه يعيش في سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة، ولهذا فإن الإمام علي عليه السلام يقول في كتابه إلى مالك الأشتر لمّا ولاّه على مصر، في حق الشريعة: واعلم أنه لا يسعد أحد إلا بإتباعها ولا يشقى إلا مع جحودها ونكرانها.

والشريعة الإسلامية جاءت لخير الإنسان، ولهذا فإنها قد وضعت عدة أمور لكي تحافظ على هذا المجتمع المسلم ولكي تؤسس السعادة له، ومن هذه الأمور التي وضعتها يأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذه الأسطر نموذج عن تمهيد مقترح لموضوع حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكمثل آخر لتمهيد آخر تقول مثلاً: أن الإسلام سعى إلى أن يربى الإنسان المسلم على أن يكون ذا حسّ بالمسؤولية وعلى أن يكون شاعراً بالمسؤولية الملقاة عليه، لأن الإنسان أساساً هو خليفة الله في أرضه، والإنسان مخلوق مسؤول وهو يختلف عن بقية الحيوانات ففيه جانب العقل وجانب الشهوة. والإسلام جاء ليركز مفهوم المسؤولية في ذهن الإنسان المسلم ويربيه على أن يكون له حسٍّ اجتماعي مسؤول،ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا أسلوب آخر لتمهيد حول نفس الموضوع، إذن فعلى الخطيب جهد الإمكان أن يبدأ بتمهيد قبل أن يدخل في صلب الموضوع. وأما مصادر التمهيد فإنها تأتي من كثرة المطالعة، وكثرة القراءة وكثرة الاهتمام بالفقه الإسلامي ومتابعة الثقافة الإسلامية،التي تؤدي إلى نضوج عقلي وذهني ومستوى من الفهم الإسلامي والثقافة الإسلامية العامة ومن خلالها يستطيع الخطيب أن يهيئ لكل موضوع تمهيداً.

والتمهيد يجب أن يكون قصيراً وفيه جاذبية، تهيئ المستمع للمحاضرة بحيث لا يستوعب المحاضرة، كما وينبغي أن تكون نفس المحاضرة فيها جاذبية بحيث تستقطب أذهان المستمعين وتجذب استماعهم، كما ألمحنا إلى ذلك.

إن التمهيد هو أول إطلالة على المستمع، وقد يكون التمهيد عبارة عن خبر أو عن قصة، أو مأخوذة عن مجلة أو جريدة، أو فكرة مستلّة من كتاب أو أي أمر يشدّ الناس إلى المحاضرة وبما يناسب موضوعها.

فلو أردنا طرق موضوع يتحدث عن الجوار وعن الجيران مثلاً فإنه يمكن أن يقال كتمهيد أن المجتمعات الغربية فقدت الكثير من العلاقات الإنسانية، حيث ذكرت بعض الصحف والمجلات، أن هناك جاراً في النرويج لم يتعرف على جارهِ خلال اثنين وعشرين سنة وهما يركبان نفس الحافلة ويرجعان طوال هذه المدة الطويلة وهو جار له في منطقته كذلك. إن هذا الخبر يشد المستمع إلى المحاضرة، وننطلق منه لنؤكد كيف أن الإسلام أكد على مسألة حسن الجوار، بالرجوع إلى الآية الكريمة المتعلقة بالجوار. وبعد هذا التمهيد تكون المحاضرة قد توفرت لديها عوامل استماع الناس وشدهم إليها.

وبعد اختيار التمهيد نسأل عن كيفية كتابة المحاضرة، وكيفية تهيئة الموضوع؟

وما هي الشروط التي يجب أن تتوافر في المحاضرة حتى يصل الخطيب بها إلى مستوى بحيث يجذب وينفع ويفيد الآخرين.

هذا ما سنتوقف عنده في درسنا القادم إن شاء الله.

ولا بد أن نؤكد هنا، أن الخطيب يكون في حاجة ماسة جداً إلى حسن البيان وإلى الأسلوب الأدبي، لأن الخطابة لا تكتمل بأخذ دروس في علم الخطابة، حيث تعطى قواعد عامة بل هي توجه ذاتيّ عند الإنسان إلى حدّ كبير، حينما يكون عنده رغبة خاصة واستعداد فعليه أن يسعى لتنميتهما وتقويتهما، وتأتي دورات الخطابة الحسينية كأسلوب لتوجيه القدرات الذاتية، ولذلك يقال: إذا أردت أن تنجح في عملك عليك أن تكون محبّاً لهذا العمل عاشقاً له، فكيف إذا كان هذا العمل ذا أبعاد رسالية وشرعية، حيث يمس عقائد الإنسان المسلم وفكر أهل البيت عليهم السلام ويتناول تفسير القرآن. إنها مسؤولية كبيرة، فعلى الخطيب أن يتعب نفسه ويجهد تفكيره وعقله، تعباً كثيراً ويحضّر تحضيراً مستمّراً، حتى يمكن أن يعطي العطاء النافع والعطاء المفيد، قال تعالى في كتابه العزيز ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ.


* دروس في بناء المجلس الحسيني. نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. إعداد: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني.ص: 60-66. ط: شباط، 2003م- 1423هـ .