المقالات
محطات من محرم الحرام
مسلم بن عقيل ثبات وشهادة
علي الأكبر(ع) تضحية ووفاء
العباس (ع) تضحية ووفاء
الطالب بدم المقتول بكربلاء
مصائب النسوة والأطفال
تاريخ النهضة الحسينية
في درب الشهادة
رجال حول الحسين
سفير الحسين
عاشوراء والإمام الخميني
مواقف خالدة
رحلة السبي
خصائص ومرتكزات
شهادة الإمام السجاد
محطات قدسية
مجالس ومأتم
معرض الصور
لوحات عاشورائية
مراقد وأماكن مقدسة
مخطوطات
المكتبة
المكتبة الصوتية
المكتبة المرئية
 
 


 ما يجب فعله حال الإلقاء 2


المسألة الرابعة: الوقوف على مرتفع

لا بدّ للخطيب أن يقف على مرتفع يطلّ به على الجمهور كي يروا وجهه ويتأثّروا بكلماته وإشاراته. ولقد جرت العادة قديماً وحديثاً بأن ينصب للخطيب منبر من خشب، ولو لم يكن هناك منبر وكانت الخطابة في الفلاة يعمل له منبر بسيط من الحجارة كما مرّ في وصف نوف البكاليّ لعليّ عليه السلام، أو من رحل الدواب كما حصل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في خطبة الوداع حين نصّ على خلافة عليّ عليه السلام، أو أن يقف الخطيب على مرتفع عال، أو يصعد إلى هضبة كما حصل مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حينما صعد الصفا وقال: "يا صباحاه".

فاجتمعت إليه قريش. فأخبرهم بنزول آية: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ1.

ويحسن في الخطيب أن يقف معتمداً على إحدى رجليه فإذا تعبت اعتمد على الأخرى. فإنّ ذلك يعينه على تحمّل طول الوقوف إلى إتمام خطبته وإن طالت.

و أمّا الإشارات فهي أمر مهمّ للخطيب ولا يمكن الاستغناء عنها في إثارة مشاعر مستمعيه. قال الجاحظ: "الإشارة واللفظ شريكان ونعم العون هي له، ونعم الترجمان هي عنه، وما أكثر ما تنوب عن اللفظ وتغني عن الخطّ"2.

ولا بدّ في الإشارة من أمور:

الأمر الأوّل

ألّا تكون مبتذلة متصنّعة يشعر المخاطبون أنّها مقصودة وأنّ الخطيب يتعمّدها فإنّ ذلك يذهب بتأثيرها ويفقدها رونقها، فلا بدّ أن تبدو عفوية قد صدرت منه من غير قصد و أنّه لم يتصنّع فيها ولم يتكلّف.

الأمر الثاني

ألّا تكون على نسق واحد بحيث يكون تكرّرها واضحاً للناظرين وذلك كما لو ظلّ يحرّك يده بحركة واحدة وعلى نسق واحد طيلة الخطبة إنّ ذلك يجعل الخطيب في موضع انتقاد الجمهور ولا يعطي النتائج المطلوبة في المساعدة على الإقناع. فلا بدّ أن تكون الحركات متنوّعة بتنوّع أسلوب الكلام من الأخبار والإنشاء ومن التعجّب والاستفهام وما شابه ذلك ولا بدّ أن تكون كثيرة كفعل الممثّلين و إلّا لم تكن "نعم العون".

الأمر الثالث

يجب على الخطيب أن لا يتنقّل على المنبر ولا يعتمد الإشارات المضحكة ولا الحركات الخفيّة كي لا يتحوّل إلى ممثّل أو إلى مهرّج.

فعليه مثلاً أن لا يهتزّ ولا يستدبر ولا يلتفت بكلّ بدنه من جهة إلى أخرى، ولا يحرّك رجله ولا يهزّ برقبته ولا يغمز بعينيه ولا يخرج لسانه ولا يقلّد الآخرين بأفعالهم وأقوالهم فكلّ هذه الأمور تفسد الجوّ العامّ للخطبة.

وهناك بعض الحركات تعدّ من آفات الخطيب، وهي أن يكثر من السعال أثناء الإلقاء، أو من الالتفات يمنة ويسرة، أو بأن يقصر نفسه عن إتمام الجملة التي بدأها فيستعين بنفس ثان لإتمامها، وأن يفتل أصابعه، أو أن ينشغل بالعبث بلحيته، أو يكثر من المسح عليها أو على شاربيه، فإنّ كلّ ذلك من العيب الذي لا بدّ للخطيب أن يتخلّص منه فيعوّد نفسه على النفس الطويل، ويسعى جهده للتخلّص من السعال في الخطابة، ويقلع عن العادات الأخرى المشار إليها.

وقد جمع أحدهم هذه الحركات ببيت من الشعر فقال:

مليء ببهر3 والتفات وسعلة ومسحة عثنون4 وتلّ الأصابع5


المسألة الخامسة: مقتضيات الإلقاء

هناك أمور يقتضيها الإلقاء تختلف باختلاف أنواع الخطب وتتلخّص في ستّة أمور:

الأمر الأوّل: كيفيّة الوقوف على المنبر

لا بدّ للخطيب الذي يكون في موضع الحماس ويريد أن يدبّ الشجاعة في قلوب سامعيه أن يقف وقفة متأهّب مستعدّ وكأنّه سينزل إلى ساحة الحرب بعد لحظات، وأن تكون أعصابه مشدودة والتفاتاته سريعة وخاطفة وحركات يديه عصبيّة ونظراته إلى المستمعين محرقة تخرج من عين تتأجّج فيها النّار حماساً وقوّة. فإنّ كلّ ذلك مهمّ في الخطب العسكريّة وهو أدعى لحملهم على الاستبسال ولدبّ الشجاعة والجرأة في قلوبهم.

ولا بدّ لمن كان في مقام الوعظ والإرشاد وأمر الناس بالتقوى وترك المعاصي أن يقف بارتخاء نوعاً ما، ويحرّك يديه بحركات خفيفة بطيئة في موضع الخشوع، وبحركات الحذر في موضع إثارة الخوف، فيفتح فاه قليلاً بما يعبّر عن ذلك فيما لو تعرّض لذكر أمر مخيف كما لو تكلّم عن جهنّم أو عذاب القبر أو شدّة الألم وما شابه ذلك. وهكذا في سائر أنواع الخطب يراعي ما يناسبها.

الأمر الثاني: طريقة النطق بالكلمات

تارة يقتضي أمر الخطابة أن تخرج الكلمات من الفم مشدودة متراصّة وكأنّ هناك من ينتزعها من الفم بقوّة فيصدر للحرف صوت يتناسب معه شدّة وضعفاً، وتارة يقتضي أن تخرج هادئة ناعمة تكاد تشبه النجوى. فإنّ ذلك أبلغ في إيصالها الخشوع إلى قلوب السامعين، وتارة تقتضي أن تخرج عاديّة لا شدّة فيها ولا ضعف، كما في الخطب العلميّة. كلّ ذلك يرجع إلى معاني الكلمات وما يتناسب معها.

الأمر الثالث: نظرات الخطيب

لا بدّ من توزيع النظرات على المستمعين كلّ بحسبه. فالذي يكون مشدوداً للكلام متوجّهاً لما يقال، ينظر إليه وكأنّه المستمع الوحيد فيزداد أنساً واستماعاً وإقبالاً، والذي يكون في سهو وغفلة عمّا يقوله الخطيب يتوجّه الخطيب إليه وكأنّه يسأل عن أمر عرض له في أثناء الكلام، ثمّ ينصت قليلاً ليتوهّم المستمع أنّه يسأله عن الجواب وأنّه ينتظر منه الإجابة، وبما أنّه غير ملتفت إلى السؤال ولا يعرف بماذا يجيب تدخل الرهبة في قلبه في اطلاع الحاضرين على غفلته أو جهله بالإجابة فيضطرّ حينذاك للتوجّه وتركيز ذهنه على فهم ما يقوله الخطيب كي لا يقع في ذلك مرّة أخرى وحينئذ يسهل إقناعه. ولا بدّ للخطيب أن ينظر في عيون السامعين كيّ لا يشعروا أنّه بعيد عنهم فيما لو ركّز نظراته في السقف كما يفعل كثير من المبتدئين في الخطابة خوفاً من أعين الناظرين.

وهناك كثير من الخطباء ليس لهم الجرأة على مواجهة المستمع والنظر في عينيه كما حصل للجنرال كرافت حيث كان يخشى من ذلك فنصحه أحد علماء الخطابة بالنظر في أنوفهم كي يتوهمّوا أنّه يتظر إلى أعينهم فلا يشعرون بأنّه بعيد عنهم6.

وكذلك عليه أن لا ينظر من خلال النافذة إلى الخارج ولا يلهو عن مستمعيه بمراقبة كتاب أو أيّ شيء آخر.

الأمر الرابع: خروج الكلام من القلب

يجب على الخطيب أن يشعر السامع بأنّ ما يقوله يخرج من قلبه وأنّه من جملة اعتماداته التي لا تقبل الشكّ والترديد. وذلك بأن يتفادى قدر الإمكان التوقّف بين الكلمات والتلكّؤ في النطق بها، فإنّ ذلك ممّا يجعل المستمع مشتّت الذهن ومتردّداً في الاقتناع بما يقال أو على أقل تقدير لا يجد في نفسه ما يشدّه للاقتناع به.

وقد قيل قديماً: "الكلام الذي يخرج من القلب يدخل إلى القلب، والذي يخرج من اللسان لا يتجاوز شحمة الأذن".

الأمر الخامس: تناسب المعاني وطريقة التلفّظ

على الخطيب أن يحرص على أن تكون طريقة التلفّظ بالعبارات مناسبة لمعانيها، فمثلاً الجملة الاستفهاميّة تحتاج إلى نمط خاصّ من التلفّظ مغاير لنمط تلفّظ الجملة الخبريّة والجملةالمنفيّة تختلف طريقة تلفّظها عن الجملة المثبتة، وكذلك سائر أنواع الجمل. وأوضح ممّا ذكرنا أسلوب تلفّظ الجملة التعجبيّة فإنّ لها أسلوباً خاصّاً لا يقوم مقامه غيره ولا يمكن توضيحه للقارئ الكريم بالعبارة إلّا أنّ الإنسان يدرك ذلك بطبعه السليم وسليقته الصحيحة في التلفّظ بالكلام العربيّ، بل إنّ ذلك لا يختلف من لغة إلى أخرى وهو مشترك بين جميع الناس.

فلو تلفّظ الخطيب بالجملة التعجبيّة أو الاستفهاميّة كما يتلفّظ بالجملة الخبريّة لدلّ ذلك على أنّه غير ملتفت إلى معناها ولما حصل للمستمع تلك الفائدة المرجوّة منها.

وأكثر ما يقع الخطيب بهذا النوع من الخطأ فيما لو كان يقرأ خطابه عن الورقة، إذ يجد نفسه قد بدأ بجملة على النهج الخبريّ مثلاً ولا يلتفت إلى أنّها تعجبيّة إلّا بعد أن يتمّها، خصوصاً إذا كان يقرأ الخطبة لأوّل مرة.

وهذا لا يحصل لمن يخطب ارتجالاً إلّا نادراً كذلك يمكن تجنّبه إذا حضَّر خطبته وطالعها مراراً قبل إلقائها.

الأمر السادس: مراعاة أماكن الوقف والدرج

حينما تنتهي الجملة لا بدّ من التوقّف هنيهة ليعلم المخاطب انتهاءها ولا يتوهّم اتصالها بما بعدها. و أمّا في وسط الجملة فلا بدّ من وصل الكلام مع بعضه البعض حتى لا يصبح مقطعاً خالياً عن الفائدة التامّة المرجوة من الكلام. ولا يصحّ الدرج في أمّا كن الوقف ولا الوقف في أمّا كن الدرج، فلا بدّ من مراعاة كلّ منهما بحسب المقام.

ولا بدّ أن تكون أمّا كن الوقف شافية بيّنة. ولا يمكن معرفة ذلك وإدراكه من خلال القراءة بل لا بدّ من تتبّع استعمالات الخطباء والاستماع إلى خطبهم والتأمل في ال أمّا كن التي يقفون عليها وال أمّا كن التي يدرجونها.

* دروس في فن الخطابة. نشر جمعية المعارف. الطبعة: 4. ص: 39-46.


1- مجمع البيان، الطبرسيّ، ج4، ص206.الشعراء:214.
2- البيان والتبيين، ص69 من الجزء الأوّل، تحقيق السندوبيّ.
3- البهر يعني انقطاع النفس والإعياء.
4- العثنون هو اللحية وقيل ما ينبت على الذقن خاصّة.
5- البيان والتبيين، ص1.
6- أصول فنّ الخطابة، عليّ باشا صالح، ص29. وكرافت رئيس أميركا عام 1869.