المقالات
محطات من محرم الحرام
مسلم بن عقيل ثبات وشهادة
علي الأكبر(ع) تضحية ووفاء
العباس (ع) تضحية ووفاء
الطالب بدم المقتول بكربلاء
مصائب النسوة والأطفال
تاريخ النهضة الحسينية
في درب الشهادة
رجال حول الحسين
سفير الحسين
عاشوراء والإمام الخميني
مواقف خالدة
رحلة السبي
خصائص ومرتكزات
شهادة الإمام السجاد
محطات قدسية
مجالس ومأتم
معرض الصور
لوحات عاشورائية
مراقد وأماكن مقدسة
مخطوطات
المكتبة
المكتبة الصوتية
المكتبة المرئية
 
 


مجلس الليلة العاشرة: شهادة عبد الله الرضيع عليه السلام - تعامل أصحاب الإمام الحسين عليه السلام مع الموت

القصيدة

القريض
 
يا ليل عاشوراء ليتك لم تكن فعظيم خطبٍ حلَّ فيك جليل
فإذا حللت فليت تبقى سرمداً وظلام ليلٍ منك ليس يزول
إذ في صباح عن ظلامك ينجلي لشموس خير الأنبياء أفول
يا ليل قد أسهرت عين بني الهدى وبك اشتفى للظالمين قبيل
الله يا ليل الوداع لما جرى فوداع آل الله فيك مهول
سل ما جرى جملاً ودعْ تفصيله فقليله لم يحصه التفصيل
حيث الحسين يروح فيك مودعاً آل الرسول بلوعةٍ ويقول
هذا الوداع أحبتي والملتقى بجنان خُلدٍ ظلهّن ظليل
فغدت بنات المصطفى في عولة وعراها من هول ذاك ذهول
ناداهم صبراً فقد نزل القضا  وبكاكم بعدي غداً سيطول
يا ليل عاشوراء أيُّ مصائب وقعت بصحبك وقعهن وبيل
ضاقت به الأرض الفضاء برحبها ولم يبق فيها للحسين مقيل
أمسى يعاتب دهره بخيامه والدهر لا يرضيه عنه بديل
لم ترع يوماً ذمة لابن حرة هذا خليلك يا زمان قتيل
تسمعه أخت ما تكرر مثلها فتكاد من هول العتاب تميل
وتقول قد قطعت قلبي يا أخي حزناً فيا ليت الجبال تزول1

(بحراني ـ فائزي):
 
بين الخيم تمشي ومرتاعه العقيلة وسمعت أخوها أوي الدهر يحكي الليلة
ويَّ الدهر يحكي ويذكر له أفعاله وقفت ابجانب خيمته كفيله أعياله
عرفت الحوراء مقصده ابحكيّه القالة دخلت عليه وعيونه بمدمع تسيله
قلها يزينب ليش مرتاعه أو تبكين قالت بعد المن تخبّي دموعهه العين
انكان ما تبكي عليك اليوم يحسين تبكي على من يا سبط طه وخليله
خليني ابكي عليك يا عزي ودلالي بكرا انه يمناي تقصر عن شمالي
كيف أهجع الليلة وهي تالي الليالي وياك بين المصطفى وحامي دخيله
(نعي): بكرا ترى ايحرقون الأطناب يقولون أهل هالبيت غيّاب
وكلنه يخويه فوق التراب شبكت علينا سيوف وحراب
(أبو ذية): أجاهد من بعد عينك وأنا ضل وآنه سور لعيالك وأنا ظلَّ
يوسفه تموت يبن أمي وأنا أظل ردت قبلك توافيني المنيّه


من خطبة للإمام الحسين عليه السلام: "خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملئن مني أكرشة جوفاً واجربة سغباً، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت..." ألا ومن كان فينا باذلاً مهجته، موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى"2.

هذا النص الذي يوثقه كتاب السير والمقاتل حينما أراد الإمام الحسين عليه السلام أن يغادر مكة باتجاه العراق. حيث كانت الصورة واضحة جداً أمامه عليه السلام لأنه قرأ الساحة ومتغيراتها وأحداثها، وعلم أنه عليه السلام نهض ورفع صوت الحق، في زمن ماتت فيه العزائم، وخارت فيه القوى، وتجردت الأمة عن حمل مسؤولياتها التاريخية والدينية، تجاه قرآنها ونبيها صلى الله عليه وآله وسلم وعترة نبيها عليهم السلام.

أمة لم تنجب إلا اثنين وسبعين رجلاً فقط انضموا إلى ركب الحسين عليه السلام شكل الواعون المخلصون من أهل الكوفة غالبيتهم، فيما انكفأ الناس عن نصرة ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

هذا النص الموثق أكدته نصوص أخرى صدرت عن الإمام الحسين عليه السلام كذلك الكتاب والذي وصف بأنه أصغر وثيقة من وثائق نهضة كربلاء الخالدة، والذي بعثه الإمام عليه السلام إلى من بقي في المدينة من بني هاشم صبيحة خروجه من مكة، والذي كان نصه: "من لحق بي استشهد ومن تخلف لم يدرك الفتح والسلام"3.

هذا إضافة إلى نصوص أخرى متضافرة على هذا المعنى، سجلتها أحداث طريق كربلاء. حتى قال الإمام زين العابدين عليه السلام: "لم نترك حجنا مع الحسين فما نزل منزلاً وما ارتحل منه إلا ذكر يحيى بن زكريا وقتله وقال يوماً: ومن هوان الدنيا على الله عز وجل أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل"4.

ولنا أن نسأل ونحن في ليلة الشهادة والخلود، في ليلة عقمت الدنيا أن توجد لها نظيراً أو تحدث إلى جانبها رديفاً ـ يا ترى لماذا كان الإمام الحسين عليه السلام يؤكد على مسألة الموت والشهادة والقتل وهو لا يزال في الخطوة الأولى من طريقه من مكة إلى العراق؟ ألم يكن المتوقع من أي قائد في مثل هكذا موقف أن يمني أصحابه بالظفر والنصر والغلبة على الأعداء فيقوي عزائهم ويشحذ همهم ويثير حماستهم؟.

بل إنه عليه السلام لم يك يطرح هذا الاحتمال، فهو يسعى ليؤكد حراجة الموت وضرورة المواجهة وحتمية الشهادة، في أي حوار أو سؤال يثار، كما حدث حين لقاء الفرزدق الشاعر الذي جاء بأمه يحج بها، فلقي الحسين بالصفاح (في أطراف مكة) فسأله الحسين عن أخبار الناس خلفه، فقال له: على الخبير سقطت، إن القوم قلوبهم معكم وسيوفهم عليكم والقضاء ينزل من السماء؟ فقال الحسين عليه السلام: صدقت لله الأمر.

فكيف نتصور المستوى النفسي والمعنوي لأنصار الحسين وهم يعيشون هذه الإرهاصات والتوقعات التي تحكي عن واقع لا مفر منه بل حتى كأنه قد حلّ فعلاً.

وقد أرّخ الفرزدق لقاءه بالحسين عليه السلام ضمن قصيدة له؛
 
رأيت الحسين بأرض الصفاح عليه اليلامق والدرّق

إذن لنا أن نتساءل عن مغزى هذا التأكيد المتصل والنبيه المتواصل على حقيقة ما ينتظر ركب الحسين من أحداث وتطورات؟ ويكن أن نتأمل ما يلي:

1- أراد الحسين عليه السلام أن يطرح ثقافة تغاير الثقافة التي دأب الأمويون على إشاعتها في الأداء حيث كانت ثقافة السلطة الأموية قد جعلت من الموت سبيلاً لإشاعة الخوف والوجل والهلع من مواجهته، وقد شجعه على ذلك، حالة الرخاء والنعيم التي صبغت أوضاع المسلمين عامة آنذاك حيث برزت نتائج الفتوحات وما تترتب عليها من غنائم من أموال ومتع ومقتنيات لم يكن المسلمون العرب سابقاً في معرفة بها.

ولو راجعنا تاريخ المسلمين منذ آخر محاولة للمواجهة والتي انتهت بصلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية سنة أربعين للهجرة، لما وجدنا أي محاولة لمواجهة الأمويين أو التصدي لما أشاعوه في الأمة من خوف وتهجير للعائلات الكوفية الموالية لأهل البيت إلى خراسان، ومن قتل لخيرة المجاهدين من الصحابة من أمثال حجر بن عدي الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي وغيرهما.

لقد حليت الدنيا في العيون وغابت التربية القرآنية وهجرت السنة المطهّرة، وكان لا بد من مواجهة لهذا الانحدار والتخاذل، فكانت ثقافة تحمل المسؤولية والنهوض بالواجب الرسالي وإن أدى ذلك إلى الموت. وكان الحسين عليه السلام يوضح هذا الهدف في أكثر من مناسبة كقوله عليه السلام: "الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون"5.

2- علة تنقية وفرز اعتمدها الحسين عليه السلام، حتى يتخلص ركبه الرسالي من كل إنسان غير مؤهل لتحمل أعباء طريق ذات الشوكة. وهذه مسألة تبدو في غاية الأهمية ولها انعكاس على عمق النهضة الحسينية الخالدة ودائرة تأثيرها وتغييرها.

لأنه لولا عملية التنقية والغربلة والفرز التي اعتمدها الإمام الحسين عليه السلام في الطريق إلى كربلاء وهو يؤكد في مناسبة وأخرى على حتمية المواجهة الدامية التي ستنتهي بالشهادة المحققة، (لا محيص عن يوم خط بالقلم)6، لبقي الكثير من أصحاب المطامع وطلاب المناصب الذين التحق المئات منهم بركب الحسين عليه السلام، حيث كان يغلب على ظنهم أن الحسين ماضٍ لاستلام مقاليد الحكم لا محالة، وإنه لا يجرؤ على قتله أو المساس به أحد. ولهذا فإن سيحصلون على ما يتوقعونه من مكاسب ومناصب وأعطيات.

ولو تصورنا أن هؤلاء بقوا بركب الحسين حينما وصل إلى كربلاء ثم جاءت أحداث يوم عاشوراء، ورأى هؤلاء الموت أمامهم رأي العين، فإن الموقف المتوقع من هؤلاء هو الهرب من المواجهة، لأنهم لم يلتحقوا بالحسين عليه السلام إلا من أجل المصالح والمطامع.

والخطورة لا تكمن في بقاء طلاب الدنيا هؤلاء أو انسحابهم من المعركة والمواجهة بل الخطورة تكمن في أن الصورة ستكون باهتة والتأثير سيكون منحسراً ولن تتمتع نهضة الحسين بتلك الصورة الرسالية الأخاذة، ولن تُعرف بتلك المواقف الإيمانية الرائدة التي سطرها شهداء الطف يوم عاشوراء، حيث لم يبد من أي منهم أي موقف يدعو إلى الهزيمة أو الانسحاب من المواجهة أو النكوص عن مقارعة الأعداء، ولو حدث هذا فعلاً لما كان لثورة الحسين ميزتها وصورتها وعظمتها ومن خلودها وتأثيرها.

لقد استطاع الإمام الحسين عليه السلام أن ينقي مسيرته الرائدة من كل أصحاب المطامع والمصالح ولم يبق معه إلا المخلصون الواعون الذين سطروا أروع الصفحات وأبين المواقف حيث لم يغيروا مواقفهم ولم يتركوا أمامهم ولم يستسلموا لأعدائهم.

وكانت أكبر عملية تنقية قام بها الإمام الحسين عليه السلام في طريقه إلى كربلاء، حينما أخبر الناس بنبأ استشهاد مسلم بن عقيل عليه السلام، حيث تفرق الناس عنه يميناً وشمالاً ولم يبق معه إلا الذين خرجوا معه من مكة المكرمة والقليل ممن التحق به في الطريق.

كان من أهداف الحسين عليه السلام من وراء تكرار وتبيان مصير حركته ومآل مسيرته أن يعد أصحابه ويهيئ أهل بيته لذلك اليوم، فهي عملية إعداد وتربية وتركيز مفاهيم وتأكيد قيّم. ولهذا فإننا لو حاولنا أن نؤرخ لكلمات الحسين عليه السلام منذ خروجه من مكة أو من المدينة، إلى وصوله إلى كربلاء، لوجدنا هناك تصعيداً في لغة التحديّ، ورفعاً لمستوى الإعداد.

نعم لقد كان أنصار الحسين وأهل بيته يمتلكون الأهلية ليكونوا أبطال كربلاء وشجعان عاشوراء، ولولا هذه الأرضية لما أمكنهم مواصلة الدرب وإكمال المسيرة، فالفرق بينهم وبين الذين التحقوا بالحسين من أجل المصالح فرق واضح وكبير. ولهذا كان تذكير الحسين عليه السلام يعطي نتائج فيهم غير النتائج التي كان يعطيها في أولئك.

فالتأثيرات من ذكر الموت كانت تقع موقع الفزع والهلع على أصحاب المطامع فكانوا يهربون ويتركون الركب الحسيني في حين أن استمرارية ذكر الموت والشهادة والقتل كانت تحدث نتائج مغايرة في المخلصين الواعين في أنصار الحسين وأهل بيته. ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ7.

ولهذا كان أصحاب الحسين تزداد وجوههم إشراقاً ومواقفهم رسالية وثباتهم أسطورية كلما أحدق بهم الخوف وأحاط بهم العدو واقتربت منهم المواجهة.

وكان لهؤلاء الأبطال موقف وأي موقف هذه الليلة، ليلة عاشوراء حيث أن الإمام الحسين خطبهم حينما جن ظلام هذه الليلة بعد أن جمعهم قائلاً:

"أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن وفقهنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين. أما بعد: فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني جميعاً"8.


وقد أخبرني جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأني سأساق إلى العراق فأنزل أرضاً يقال لها عمورا وكربلاء وفيها استشهد وقد قرب الموعد.

ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم مني ذمام وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، وتفرقوا في سوادكم وموائنكم فإن القوم إنما يطلبوني ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري"!.

فقال له أخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأنباء عبد الله بن جعفر: لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبداً، بدأهم بهذا القول العباس بن عليع ليه السلام وتابعه الهاشميون، والتفت الحسين إلى بني عقيل وقال: حسبكم من القتل مسلم، اذهبوا قد أذنت لكم. فقالوا: إذاً ما يقول الناس وما نقول لهم؟ إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرمِ بسهم ولم نطعن برمح ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا، لا والله لا نفعل ذلك، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، نقاتل معك حتى نرد موردك، قبح الله العيش بعدك.

ثم جاء دور الأنصار فقال مسلم بن عوسجة رضي الله عنه:

أنحن نخلي عنك وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقك؟ أما - والله - لا أفارقك حتى أطعن في صدروهم برمحي وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة حتى أموت معك.

ثم قال سعيد بن عبد الله الحنفي: والله لا نخليك حتى يعلم الله أن قد حفظنا غيبة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيك أما والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا أم أحرق حياً ثم أذرى، يفعل بي ذلك سبعين مرة لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها!!

وقال زهير بن القين: والله وددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف مرة وأن الله عز وجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك!

ثم تكلم باقي الأصحاب بما يشبه بعضه بعضاً، فجزاهم الحسين خيراً"9.

وهكذا أوضحت المقالات عن عمق الإيمان، ووضوح الرؤية وثبات الموقف.

وجاء يوم عاشوراء ليجد أولئك الأشاوس عميق ذلك الوعي والثبات.
 
وتناديت للذبّ عنه عصبة ورثوا المعالي أشيباً وشبابا
من ينتدبهم للكريهة ينتدب منهم ضراغمة الأسود غضابا
خفوا لداعي الحرب حين دعاهم ورسوا بعرصة كربلاء هضابا
أسُد قد اتخذوا الصوارم حليةً وتسربلوا حلق الدروع ثيابا
وجدوا الردى من دون آل محمد غدياً وبعدهم الحياة عذابا10


وتفرغ أصحاب الحسين عليه السلام هذه الليلة ليعدوا للمواجهة يوم غدٍ، ثم لينقطعوا إلى الله تعالى قياماً وقعوداً ركوعاً وسجوداً، وذكر السيد ابن طاووس في اللهوف أن اثنين وثلاثين رجلاً عبروا من معسكر عمر بن سعد إلى معسكر الحسين عليه السلام تلك الليلة وبقوا معه حتى نالوا الشهادة.

أما الحسين عليه السلام فقد قضى بعض هذه الليلة في تفقد التلاع ومواقع الأرض التي تحيط بالمخيم ووضع خطة الحرب وأمر بحفر خندق حول الخيام التي أمر بتقريبها وسد الفراغ بينها.

كما قضى شطراً من هذه الليلة في انقطاع إلى الله تعالى تلاوة لكتابه وذكراً لآلائه وصلاة لقدسه تبارك وتعالى. وكان قد قال للقوم لما أرادوا الحرب عصر يوم التاسع: إن الله تعالى يعلم أني أحب الصلاة له وتلاوة القرآن وكثرة الاستغفار بينما قضى الشطر الآخر من ليلته الأخيرة هذه مع أهله وعياله وتوديعهم وإعدادهم لتحمل الرزايا ومواجهة المصائب ورحلة السبي الطويلة التي هي بانتظارهم.

وروي عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال:

"إني لجالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمتي زينب تمرضني، إذا اعتزل أبي في خباء له، وعنده (جون) مولى أبي ذر، وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول:
 
يا دهر أفٍ لك من خليل كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل والدهر لايقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل وكل حي سالك سبيل

ما أقرب الوعد من الرحيل


فأعادها أبي مرتين أو ثلاثاً حتى فهمتها فعرفت ما أراد، فخنقتني العبرة فرددت دمعتي ولزمت السكوت وعلمت أن البلاء قد نزل!

وأما عمتي زينب عليها السلام فإنها لما سمعت ما سمعت وهي امرأة ومن شأن النساء الرقة والجزع فلم تملك نفسها دون أن وثبت تجر أذيالها، وهي حاسرة حتى انتهت إليه وهي تنادي: واثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن، يا خليفة الماضين وكمال الباقين.

فنظر إليها الحسين عليه السلام نظر رأفة ورقة وقال: يا أخية لا يذهبن بحلمك الشيطان. قالت: بأبي أنت وأمي، استقتلت نفسي فداك، فرد الحسين غصته وترقرقت عيناه بالدموع، فقالت: ردنا إلى حرم جدنا رسول الله فقال: هيهات لو تُرك القطا ليلاً لغفا ونام! فقالت: واويلتاه أفتغتصب نفسك اغتصاباً؟ فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي فقال لها الحسين: أخية اتقي الله وتعزي بعزاء الله واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأن أهل السماء لا يبقون11.
 
(نعي): تدرون بيّه هاشمية كلمة عدو تصعب عليه
أنا امنين اجتني الغاضرية رحتوا جمع من بين أديه
(نعي): وصوا بنا قبل لترحلون ومن قبل عالغبرة تنامون
يحسين انته نور العيون حرمه وغريبه لا تقطعون
مشفنا الأهل كلهم يغيبون وعن الوطن كلهم يشيلون


ثم سمعت بقية النسوة فجئن وبكين ونصبن المناحة.

ثم إن الحسين عليه السلام أنبأهم بما يحل بهم من رزايا ومحن وأوصاهم بتقوى الله وتحمل ذلك بصبر واحتساب.

وكان للحسين عليه السلام وداع مع أخواته وإخوته وبناته وأبنائه، وكان له وداع خاص بطفله الصغير عبد الله، يطيل النظر إليه ويتأمل محياه وشبهه بجده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا وداع ووداع آخر يوم عاشوراء يوم غد، لما قتل أصحاب الحسين وأهل بيتsه ولم يبق معه أحد ينصره، وإذ بزينب تأتي إليه بطفله الرضيع بعد أن جاءت به إليها أمه الرباب وهي تقول: هاكم رضيعكم يا آل محمد، فأخذه الحسين بدوره ومشى به إلى الأعداء رافعاً إياه أمامهم منادياً: يا قوم إن كان للكبار ذنب فما ذنب الصغار، خذوه واسقوه جرعة ماء، فلقد جفّ صدر أمه من اللبن!
 
فبكى لما رآه يتلظى بأوام بدموع من أماقٍ تخجل السحب السجام
فنحا القوم وفي كفيك ذياك الغلام  وهما من ظمأ قلباهما كالجمرتين
فدعا في القوم بالله من خطب فظيع نبئوني أأنا المذنب أم هذا الرضيع
لاحظوه فعليه شبه الهادي الشفيع لا يكن شافعكم خصماً لكم في النشأتين

فالتفت عمر بن سعد إلى حرملة بن كاهل وقال له اقطع نزاع القوم، فرماه حرملة بسهم فذبحه من الوريد إلى الوريد، فسال الدم وأخرج الطفل يديه من القماط وجعل يرفرف على صدر أبيه الحسين كالطير المذبوح، وضع الحسين يده تحت منحره فلما امتلأت دماً رمى بها إلى السماء.
 
فالتقط مما همى من منحر الطفل دما ورماه صاعداً يشكو إلى رب السما

وينادي يا حكيم أنت خير الحكما

(نعي): تلقى حسين دم الطفل بيده اشحاله اليقتل ابحضنه اوليده
شاله وملا كفه من وريده  ارماه للسم وللقاع ماخر


ولما عاد إلى أمه ورأت رضيعها مذبوحاً، صرحت واولداه واذبيحاه.
 
(نعي): كل المصايب يبني تهون ولمصيبتك بالقلب كانون
فوق العطش بالسهم مطعون يولدي ولجدَّك اشيقلون
(أبو ذيه): مآتم للحزن ننصب ونبني  رماني حرملة ابسهمه ونبني
الطفل عاده يفطمونه وانا بني انفظم يا ناس بسهام المنيّة
ومرضعة ناحت بجنب رضيعها مولهة والوجد بادٍ وكامن
رأته وما بلت حشاشة صدره ثدي ولا احنت عليه الحواضن
فودت بأن تسقي له ماء عينها يروى ولكن ذلك الماء آجن
ومنعطف أهون لتقبيل طفله فقبل منه قبله السهم منحرا

* مصباح الهدى. نشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية. إعداد : معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني. ص: 145-161. الطبعة: الأولى، كانون الثاني، 2008م-1429هـ


1- للشيخ محمد سعيد المنصوري عدا الأخير فهو للشيخ محمد نصّار النجفي رحمه الله.
2- بحار الأنوار، ج44، ص366-367.
3- بحار الأنوار، ج44، ص366-367.
4- بحار الأنوار، ج45، ص89-90.
5- راجع مقتل الحسين للسيد محمد باقر بحر العلوم، ص176، دار الزهراء.
6- بحار الأنوار، ج44، ص383.
7- آل عمران، 141.
8- بحار الأنوار، ج44، ص 392-393.
9- بحار الأنوار، ج44، ص 392-393.
10- من قصيدة للسيد رضا الهندي رحمه الله.
11- راجع مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرم ص212-214 مقتل السيد بحر العلوم، ص279-281.