المقالات
محطات من محرم الحرام
مسلم بن عقيل ثبات وشهادة
علي الأكبر(ع) تضحية ووفاء
العباس (ع) تضحية ووفاء
الطالب بدم المقتول بكربلاء
مصائب النسوة والأطفال
تاريخ النهضة الحسينية
في درب الشهادة
رجال حول الحسين
سفير الحسين
عاشوراء والإمام الخميني
مواقف خالدة
رحلة السبي
خصائص ومرتكزات
شهادة الإمام السجاد
محطات قدسية
مجالس ومأتم
معرض الصور
لوحات عاشورائية
مراقد وأماكن مقدسة
مخطوطات
المكتبة
المكتبة الصوتية
المكتبة المرئية
 
 


مجالس العزاء في عصر الأئمة عليهم السلام

تحدثنا في الدرس السابق عن المراحل التي مرَّ بها المنبر الحسيني في تطوره، ولا يزال الموضوع بحاجة إلى إشباع. خاصة فيما يتعلق ببداية تأسيس المنبر وحث الأئمة عليهم السلام على إقامته وهذا ما سنتناوله في هذا الدرس. فإنَّ واقعة كربلاء التي حدثت سنة 16 للهجرة كان يمكن أن تكون مجرد معركة بطوليّة وملحميّة بين فئتين متفاوتتين في العدد والمبدأية. ولكنها إضافة إلى ذلك تميّزت بأبعادٍ عاطفية وبشكل عميق ومؤثّر، ولعل هذا من النتائج المهمة التي برزت من إصرار الإمام الحسين عليه السلام على أن يأخذ النساء معه. و كانت أبعاد الحركة واضحة عند الإمام الحسين عليه السلام، إذ كان عليه السلام عالماً أنه ماضٍ للقتل، وإصرار الإمام عليه السلام على أن يأخذ النساء معه نتجت عنه عدة فوائد، وترتبت عليه أبعاد عدّة؛ منها إعطاء واقعة كربلاء هذا الزخم العاطفي؛ لأن مجيء النساء يعني مجيء الأطفال حتماً، حيث ستبرز الأدوار المهمة لهذا المجيء خلال المرحلة الثانية من نهضة الإمام الحسين عليه السلام. وذلك طوال أيام السبي، من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام حتى العودة إلى المدينة. إن قطع هذا الطريق الطويل، لم يكن بالأمر اليسير والهينّ؛ إنه الطريق الذي اكتنف مآسٍ وآلاماً، جعلت لواقعة كربلاء بعداً عاطفياً، جنباً إلى جنب مع قيام ركب السبي بتوضيح نهضة الإمام
الحسين عليه السلام وفضح النهج الأموي الظالم، وقد انتظمت مجموعة من التعازي والمآتم العفوية عبر هذه المسيرة.

فهناك عزاء أقيم في كربلاء ليلة الحادي عشر؛ حيث زينب عليها السلام المفجوعة ومن بقي من النساء والأطفال في تلك الليلة.

ومجلس أقيم حينما خرج ركب السبايا من كربلاء، ومجلس آخر أقيم في الكوفة؛ وكان مأتماً عاماً، ضجت الكوفة بأهلها حتى يقول القائل: رأيت شيخاً إلى جنبي يبكي قد بلَّ لحيته بدموع عينيه وهو يقول بأبي أنتم وأميًّ... إلى آخر الرواية، إذن هناك مجلس عزاء عمومي في كربلاء وآخر في الكوفة، ومجالس عزاء متنقلة في الطريق إلى الشام. إن مجلس العزاء العام الذي أُقيمَ في الكوفة والتي كانت فيها قاعدة مواليه ومحبة لأهل البيت عليه السلام. ولكن هذا الأمر لم يكن موجوداً في الشام؛ لأن الشام كان فيها نمط آخر، حيث ساد العداء لأهل البيت عليه السلام، نعم أقيم مجلس عزاء في قصر يزيد من قبل بعض النساء الأمويات اللواتي أقمن المآتم ثلاثة أيام، وشاركن بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعزاء. كما يُنقل ذلك في تاريخ الطبري والأخبار الطوال وابن الأثير وغيرهم، نعم كان هناك بكاء ونحيب عام في مسجد دمشق الأعظم، تجاوباً مع خطبة الإمام زين العابدين عليه السلام. ثم كان هناك مجلس آخر عام أيضاً أقيم في كربلاء حيث أن مأتماً كبيراً أقيم في كربلاء في يوم الأربعين، ومأتم كبير آخر أقيم في المدينة المنورة، لما رجع ركب السبايا إلى المدينة، وخروج أهل المدينة لاستقبال المَسبيات. حتى يقول الراوي فكان يوماً شبيهاً بيوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أطلقنا على هذه المآتم أنها مآتم عفوية أو عرضية، ومعنى ذلك أنه لم يكن هناك مسألة تخطيط مسبق لهذه المآتم، بل أن طبيعة المأساة وطبيعة الآلام، هي التي كانت تفجر موقف البكاء. نعم برزت المجالس الحسينية الهادفة، بعد ذلك حينما دعا الأئمة عليهم السلام شيعتهم وشجعوهم وحثوهم على إقامة هذه المآتم.

فهذا الإمام زين العابدين عليه السلام حينما يقول: "أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين دمعة، حتى تسيل على خده بوأه الله بها غُرفاً في الجنة يسكنها أحقاباً".

لقد كان عليه السلام يدعو إلى البكاء وتذكر واقعة كربلاء ونجد الإمام الباقر عليه السلام يقول: "ما اجتمع مؤمن مع آخر وتذاكروا في أمرنا إلا وكان ثالثهما ملك مقرّب يدعو لهما".

ونستمع إلى الرواية حينما يدخل الفضيل ابن يسار على الإمام الصادق عليه السلام ويسأله الإمام: يا فضيل تجلسون وتتحدثون؟ قال الفضيل: نعم جعلت فداك يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"يا فضيل، إن تلك المجالس أحبها أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا".

إذاً هناك دعوة واضحة إلى إقامة المآتم والحث على حضورها، وكذا الحال مع الإمام الرضا عليه السلام عندما يلتقي بالريان ابن شبيب في أول يوم من أيام محرم ويقول له: يا ابن شبيب إن كنت باكياً لشيء فابكِ للحسين بن علي بن أبي طالب.. وهذه دعوة أخرى إلى أن تقام المآتم الحسينية، والأئمة عليهم السلام لم يكتفوا بالحث وإنما نفذوا ذلك على الأرض.

فكان الإمام الباقر عليه السلام يدعو الشعراء إلى بيته، ويدخل الكميت ابن زيد الأسدي ويدخل السيد الحميري وشعراء آخرون يرْثُون الإمام الحسين عليه السلام بين يدي الإمام الصادق عليه السلام وهو يدعو أصحابه للاجتماع والبكاء. إذاً أصبح هناك مجلس حسيني هادف، وهو يختلف عن المآتم التي كانت في أيام السبايا، ففي أيام السبايا كانت طبيعة المأساة هي التي تُبكي الناس، فيتفاعلون معها. وأما هنا فقد برزت مآتم يُدعى لها ويستجيب المؤمنون لدعوتها.

لقد كان ممكناً لواقعة كربلاء أن تنسى وكانت مهددة بالنسيان فعلاً، ولكن الأئمة عليهم السلام أرادوا أن يُبقوا جذوة كربلاء متقدة في النفوس، حتى تبقى طاقة تزِّود الأمة بعطاء عاطفي ورشدٍ واعٍ، فيه حرارة وصدق مع مبادئ الإسلام والتضحية من أجله. نعم لقد أثمرت جهود الأئمة عليهم السلام في إبقاء واقعة كربلاء حيّة عبر المجالس والمآتم. حتى نشأت في عهد الإمام الصادق عليه السلام طبقة أو مجموعة من الناس أطلق عليهم اسم المنشدون (المُنْشِدُ رجل يحفظ الشعر الرثائي في الحسين عليه السلام ويقرأه) وهناك رواية أن الإمام الصادق عليه السلام تدَخّل حتى في كيفية قراءة القصيدة، ففي الرواية المشهورة حين يدخل أبو هارون المكفوف على الإمام الصادق عليه السلام يلتفت إليه الإمام عليه السلام يقول له: أتحفظ شيئاً من قصائد السيد الحميري قال نعم، قال الإمام عليه السلام أنشدني، وكأنما هيبة الإمام الصادق عليه السلام قد جعلت هذا الرجل يقرأ القصيدة وكأنها شعر عادي:
 

أمرر على جدث الحسين وقل لأعظمه الزكية
يا أعظماً ما زلت من وطفاء ساكبة رويّة


ولكن الإمام الصادق عليه السلام التفت إلى الرجل وقال: يا أبا هارون ما هكذا، إقرأها كما تقرأون وفي رواية اقرأها وكأنك عند قبر الحسين عليه السلام.

وكأن لسان حاله... يقول: نعم لا أكتفي منك أن تقرأها بالطرق العادية، إقرأها بالطور إقرأها باللحن المشجي بالأسلوب الحزين، إذن لقد نشأت في عهد الإمام الصادق عليه السلام طبقة تسمى بالمنشدين، المنشدون أناس اختصوا بالرثاء بالإمام الحسين فأصبح هناك تخصص. لقد خطى المنبر الحسيني أولى خطواته، حينما برز في المجتمع أناس متخصصون بقراءة القصائد الرثائية، ولم يكن في المجالس حينذاك موضوع ولا تخلّص ولا مصيبة، كانت هناك قصيدة فقط ولم يكن يقرأ غيرها، وفي موازاة هؤلاء المنشدين نشأت طبقة أخرى تسمى بالقصّاصين.

والقصاصون هم الذين كانوا يسردون على الناس قصة واقعة كربلاء بما يعرف بالسيرة أو مصرع الحسين عليه السلام فيقصون على الناس؛ كيف خرج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة بعدما رفض بيعة يزيد كيف وصل إلى مكة؟ ماذا جرى في مكة؟

ما هي الطرق من مكة إلى كربلاء؟
ماذا حصل في كربلاء؟ أحداث يوم عاشوراء ثم أحداث ليلة عاشوراء، بعد ذلك السبايا، وماذا حصل في الكوفة؟ ماذا حصل في الشام؟ خطبة الإمام زين العابدين عليه السلام، خطبة السيدة زينب عليها السلام، الرجوع من مكة إلى كربلاء؟ من كربلاء إلى المدينة؟

وكل ما جرى مع الإمام الحسين وأصحابه قبل المعركة وبعد المعركة وهذا يسمى كما ذكرنا بالمقتل أو المصرع.

إذن القصاصون كانوا يقرأون ويقصون على الناس: الذي حدث في كربلاء ثم تطوّر الأمر ثم بعد ذلك حيث اندمج هذان العنصران في شخص واحد، فصار المُنْشِدُ يقرأ شيئاً من هذه السيرة.

وبعدها لا بد أن يقرأ معها شيء من الشعر، فبدأت الخيوط الأولى تتجمع لقارئ العزاء، لبروز الخطيب الحسيني، حيث أصبح يقرأ القصيدة والسيرة، ثم استمر هذا التطور حتى أضيف إلى رثاء الإمام الحسين عليه السلام رثاء بقية أهل البيت عليهم السلام.

ولعل من أقدم النصوص في هذا التطوّر، هو قصيدة دعبل بن علي الخزاعي، التي أنشدها في حضرةِ الإمام الرضا عليه السلام، والتي لم يُركّز فيها فقط على مصيبة الإمام الحسين عليه السلام، وإنما كان يعرّج على مصائب أهل البيت عموماً، وهو التطور الذي وسّع من دائرة المنبر ليشمل بقية الأئمة مع الحسين عليه السلام... ومن أبيات تلك القصيدة:
 

مدارس آيات خلت من التلاوة ومنزل وحي مقفل العرصاتِ
ديار علي والحسين وجعفر وحمزة والسجاد ذي الثفناتِ
قبور بكوفان وأخرى بطيبة وأخرى بفخٍ نالها صلواتي
وقبرٌ بأرض الجوزجان محلها وقبر ببا خمرا لدى الغربات
وقبرٌ ببغداد لنفسٍ زكيّة تضمنها الرحمن بالعرفات


ويومها بكى الإمام الرضا عليه السلام ثم قال: أضف إلى قصيدتك هذا البيت:
 

وقبر بطوس يا لها من مصيبة  ألحت على الأحشاء بالزفرات


قال يا بن رسول الله ما عهدت لكم قبراً في طوس، قال الإمام الرضا عليه السلام إنه قبري يا دعبل وسيكون مثابة لشيعتي "من زارني في غربتي زرته في غربته يوم القيامة".

بعدها قال الإمام الرضا عليه السلام: يا دعبل عرّج بنا على كربلاء.

وبالمناسبة فإن بعض الخطباء يسمون فقرة التخلّص -التي سيأتي بيانها- بالتعريج، حيث يُعرِّج أي ينتقل الخطيب من موضوع إلى موضوع آخر.

وعرِّج بنا على كربلاء تعني أوصلنا إلى كربلاء وفي تلك الساعة، قال دعبل:
 

أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً وقد مات عطشاناً بشط فراتِ


إلى آخر القصيدة...

ثم أن هناك تطوراً آخر حدث للمجلس الحسيني، حينما دخل موضوع الوعظ في مجالس الحسين عليه السلام فأصبح خطيب المنبر الحسيني، يقرأ قصيدة ثم يذكر شيئاً من حديث الوعظ والتذكير بالآخرة والموت ثم يعرّج على كربلاء.

وهكذا بدأ الموضوع يدخل في هيكلية خطيب المنبر الحسيني، كفقرة من فقراته المتطوّرة.

لقد لاحظنا خطوات التطوّر هذه، فالمنشد كان ينشد قصائد الرثاء، ثمّ وسّع من دائرة عمله ليضيف إليها حفظ نصوصٍ من السيرة الحسينية، ثم سيرة ورثاء أهل البيت عليه السلام، وأخيراً شمل التطوّر ذكر المواعظ وأخبارها ضمن الخطبة.

ثم حدثت بعد ذلك تطورات كثيرة أخرى إلى أن وصل الخطيب الحسيني إلى المستوى الذي فيه الآن. فعندما نستمع إلى مجلس حسيني للدكتور الوائلي مثلاً. وإذا بها محاضرة متكاملة فيها الفقه والاقتصاد والفلسفة والعلوم المختلفة وتفسير القرآن والثقافة والتأريخ، بحيث يخرج منها المستمع متعلِّماً ومستفيداً.

وحتى نعرف مقدار السعة التي بلغتها ثقافة الخطباء، نذكر مثلاً لأحد الخطباء المبدعين وهو السيد صالح الحلي رحمه الله الذي سبق أن أشرنا إليه في درسنا السابق، والذي كان أحد الخطباء المعروفين فكان قد دعي في النجف الأشرف، لإقامة مجالس لعشرة أيام، وكان هناك في العراق عدة جهات تقيم المجالس الحسينية، مثل صنف البقالين يقيمون مجلساً، صنف الحدادين عندهم مجلس، صنف أصحاب المطاعم، صنف أصحاب الفنادق، صنف بائعي الخضار، صنف سائقي السيارات، كل صنف من هذه الأصناف له مأتم خاص به. وكان في النجف مجلس يقيمه المكاريون وهم الذين يتولون مهمة نقل البضائع والمسافرين على دوابهم قبل شيوع السيارات من النجف وإليها. فدعي السيد الحلي أن يقيم لهم مجلس لعشرة أيام. وتستمر هذه المجالس من أول محرم إلى الثلاثين من صفر أي ستين يوماً متتالياً ليلاً ونهاراً، وجرت العادة أن يستمر المجلس الواحد لعشرة أيام أو ليالٍ، فهناك مجلس للعشرة الأولى من المحرم ومجلس للعشرة الثانية منه، وآخر للثالثة وهكذا بالنسبة لشهر صفر أو شهور أخرى.

ولما ارتقى السيد صالح الحلي المنبر، لم يخرج في مجلسه هذا عن مواضيع وأخبار القوافل وما قيل في الجمال والخيول والبغال والحمير من شعر ونوادر أدبية وأحاديث وقصص.. فتعاظمت هناك حشود كبيرة من الحضور يستمعون إلى محاضراته ويستمتعون بها وبشكل مذهل. وهكذا لم يبق منبر الحسين عليه السلام مجرد مجلس بكاء، إنَّ مجالس الإمام الحسين عليه السلام ليست فقط مجالس عزاء، وإنما هي مجالس لتربية الأمة، والمنبر الحسيني الذي بدأ بتجمع بسيط في منزل الإمام الصادق أو الباقر عليه السلام ووصل إلى هذه المستويات المتطورة من الطرح، حتى صار مؤسسة إعلامية كبرى، تعالج مشكلات الإنسان المسلم وشؤونه المختلفة وإن على خطيب المنبر الحسيني أن يستوعب هذه المسيرة حتى يعي دوره الذي ينبغي النهوض به والإحاطة بالبرنامج والموضوع الذي يسعى لطرحه.


* دروس في بناء المجلس الحسيني. نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. إعداد: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني.ص: 21-30. ط: شباط، 2003م- 1423هـ .