المقالات
محطات من محرم الحرام
مسلم بن عقيل ثبات وشهادة
علي الأكبر(ع) تضحية ووفاء
العباس (ع) تضحية ووفاء
الطالب بدم المقتول بكربلاء
مصائب النسوة والأطفال
تاريخ النهضة الحسينية
في درب الشهادة
رجال حول الحسين
سفير الحسين
عاشوراء والإمام الخميني
مواقف خالدة
رحلة السبي
خصائص ومرتكزات
شهادة الإمام السجاد
محطات قدسية
مجالس ومأتم
معرض الصور
لوحات عاشورائية
مراقد وأماكن مقدسة
مخطوطات
المكتبة
المكتبة الصوتية
المكتبة المرئية
 
 

فقرة المصيبة 1

أكملنا في درسنا السابق الفقرة الرابعة من فقرات المنبر الحسيني المعاصر، وهي فقرة (التخلّص). وفي هذا الدرس نواصل دراستنا لبقية الفقرات وهما (المصيبة) وَ(الدعاء).

5- فقرة المصيبة

ونعني بها التوقّف عند مفردة من مفردات أحداث واقعة كربلاء ذات الجانب العاطفي الحزين، حيث يتم إشباع هذا الجانب بالشعر الرثائي المناسب لها، وبنوعية الشعر العربي الفصيح (القريض)، والشعر الشعبي المتداول.

وفي هذه الفقرة يتغير أداء خطيب المنبر الحسيني، شكلاً ومضموناً أما شكلاً؛ فمن خلال تغيّر نبرات صوته وارتفاعها، واستخدام أطوار وأساليب الإنشاد العاطفي الحزين. فالخطيب نفسه الذي كان هادئاً في حديثهِ، طبيعياً في طرح محاضراته، نجده في هذه الفقرة رافعاً صوته، مغيّراً نبراته لمزيد من الإبكاء وإيقاد العواطف الحزينة وإذكاء الإشجان.

وللدّقة العلمية، فإن نبرات صوت الخطيب تبدأ في نهاية فقرة (التخلّص) السابقة، ولكن التغيّر هناك تغيراً بسيطاً يتمثّل بترقيق الصوت دون رفعه، وبأسلوب رقيق هادئ في عملية تهيئة للوصول بروّاد المجالس الحسينية إلى حالة الإبكاء واستدرار الدموع.

إن فقرة (المصيبة) كانت من التطورات الفنية التي طرأت على المنبر الحسيني عبر مراحله التاريخية. فقد كانت المصيبة ضمن قصيدة الرثاء التي لم يكن غيرها في بداية نشوء المنبر كما مرّ بنا. فحينما كان الشاعر يقرأ قصيدته الرثائية، فإنما كان يعرض جوانباً من كربلاء وأحزانها ومصائبها، دون أن يكون للمصيبة فقرة خاصة. ثم أن الشعر الرثائي في بدايته لم تكن تصاحبه تغيرات في الصوت وتجويد في الإنشاد الحزين. نعم بدأ ذلك بوقت مبكر، حينما طلب الإمام الصادق عليه السلام من أبي هارون المكفوف المُنشد، أن يعيد قراءته لقصيدة السيد الحميري بأسلوب شجي وطريقة مُحزنة وإنشاد عاطفي. (كما ذكرناه في دروسنا الأولى).

ومع تطوّر المنبر، ودخول عنصر الوعظ بعد إنشاد القصيدة في مقدمة المجلس، كان لا بد من ختم المجلس بالعودة إلى كربلاء وآلامها مرة أخرى، فنشأت فقرة (المصيبة).

إن فقرة (القصيدة) التي سبق لنا دراستها، كانت تتضمن التعريج على كربلاء ومصائبها، وقد قلنا أن الأفضل من الناحية الفنية أن يتم انتقال الخطيب من طور (الدرج) إلى طور (المثكل) حينما ينتقل الشاعر إلى كربلاء وأحزانها. كما قلنا هناك - أن العادة قد جرت أن لا يكتفي بإنشاد القصيدة الفصحى في أول المجلس، بل تُلحق بها أبيات من الشعر الشعبي العراقي أوالخليجي. لكننا هنا ونحن في نهاية المجلس، فإن فقرة (المصيبة) تختلف عن سابقتها التي جاءت ضمن القصيدة في جملة نقاط منها:

أ- ضرورة التمهيد لفقرة (المصيبة) بفقرة (التخلّص) كما درسنا، بينما لا تحتاج المصيبة التي تأتي ضمن القصيدة إلى تمهيد من قبل خطيب المنبر الحسيني.

ب- إن المصيبة الواردة في القصيدة لا تحتاج إلى إشباع، كما ينبغي أن يكون عليه الحالة في فقرة (المصيبة) آخر المجلس. فإذا لم يتم التفاعل العاطفي مع القصيدة ومصيبتها ولم يحدث إبكاء ولم تنزل الدموع، فهو أمر لا يقدح بقدرة الخطيب ومقدرته الفنية في الوصول بالمستمع إلى مستوى ذلك، وإلى حدّ واضح. أما أن لا يوفّق الخطيب في أن يصل بروّاد مجلسه في فقرة (المصيبة) إلى مستوى الإبكاء، فهي مسألة بحاجة إلى مراجعة ودراسة، وهي ظاهرة تمس صميم مهمة الخطيب الحسيني.

صحيح أن المسألة نسبيّة، تختلف من مجتمع منبري لآخر، ومن مستوىً لثانٍ، ولكن لفقرة المصيبة خصوصية واضحة في إيصال خطيب المنبر الحسيني بروّاد مجلسه إلى نقطة الانفجار العاطفي والبكاء أو التباكي.

ج- في فقرة (المصيبة) وللوصول إلى ما ذكر أعلاه، فإن الخطيب لا يكتفي عادة بطور خاص، ولا بإسلوب واحد في إذكاء العواطف الحزينة المتعلقة بالمفردة التي اختارها لإنهاء مجلسه بها. فنجده يستخدم عدة أطوار من الشعر الفصيح والشعبي الدارج، ينتقل فيه من الفصيح إلى الشعبي وبالعكس، حتى يجد أن المجلس قد أخذ كفايته من الإذكاء العاطفي والإبكاء الحزين. بينما جرت العادة في إنشاد القصيدة على اتباع أطوار محدّدة، وقد لا ينتقل إلى الشعر الشعبي بعدها، وإذا فعل ذلك فمن غير المألوف والمستساغ عودته مرة أخرى إلى الشعر الفصيح.

د- إن المصيبة التي تأتي ضمن فقرة (القصيدة) لا تحتاج إلى بيان وعرض من قبل الخطيب، فلا تبرز فيها قدرته الإبداعية أو الأدبية في صياغة الكلمات وسبك الألفاظ، بينما نجد أن فقرة (المصيبة) في نهاية المجلس تأتي أولاً بعد فقرة (التخلّص) التي تمهّد لها، وثانياً لا بد للخطيب أن يصوّر المفردة الحزينة، ويقرّب جوانبها العاطفية، وهو يسعى لإذكاء الأحزان واستدرار الدموع، مستخدماً رصيده الأدبي، ومقدرته التصويرية، بل قد ينزل الخطيب الحسيني من منبره، ولاقطة الصوت بيده - لمزيد من الإبكاء - ويتجوّل بين الناس، كما هو الحال في بعض مجالس الخليج، وهذا لا يكون عند إنشاد القصيدة.

فالنقطة الرابعة هنا، إن مستوى الخطيب وقدرته وكفاءته ورهانة أسلوبه تبرز في فقرة (المصيبة) هذه، وبشكل واضح.

هـ- في أثناء إنشاد القصيدة لا يحتاج الخطيب إلى إيراد نصّ يتعلّق بالمصيبة التي تتناولها هذه القصيدة، بينما يحتاج الخطيب في فقرة (المصيبة) إلى إيراد النصّ المأخوذ من كتب المقاتل والسير، حتى يهيأ الأجواء ويوضّح الصورة ويبرز المفردة الحزينة، التي يريد توظيفها في هذه الفقرة. وهنا تبرز ضرورة حفظ النصوص المتعلقة بجوانب كربلاء وما فيها من حوارات وأشعار وتوصيف المواقف.

ونورد مثالاً يتضمن النقاط التي ذكرناها آنفاً...

لو فرضنا أن خطيب المنبر الحسيني، كان يطرح محاضرة في الأخلاق وأهميتها أو في خصوص أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أخذ الخطيب يفكّر في مفردة المصيبة التي ينبغي اختيارها لإنهاء مجلسه، فاختار - فرضاً- مفردة مصيبة عبد الله الرضيع بن الإمام الحسين عليه السلام. فالخطيب لا بد عليه أولاً أن يهيء ذهن المستمع ونفسيته للانتقال من المحاضرة إلى كربلاء، أي لا بد أن يمرّ بفقرة (التخلّص) قبل وصوله إلى فقرة (المصيبة).

فتبدأ نبرات صوته بالتغيّر، حيث يتحدث بطريقة هادئة حزينة وكأنه يخاطب قلوب الحاضرين وضمائرهم، فيقول - على سبيل المثال -: هذه أخلاق الإسلام وهذه أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يحبّ الأطفال ويرعاهم، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم لمن لم يقبّل طفله الصغير "من لا يرحم لا يُرحم".. حتى كان يؤتى بالأطفال إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليؤذن ويقيم في آذانهم وليدعو لهم ويباركهم ويمسح بيديه الحانيتين عليهم...

(وهنا تبدأ نفسية المستمع بالاستعداد لما يريد الخطيب إيصاله إليه، وهي مصيبة الطفل الرضيع).. أقول سيدي يا رسول الله، إذا كنت تعامل أطفال المسلمين بهذه الرقّة وهذه العاطفة وهذا الحنّو.. فأين أنت يا من بعثت رحمة للعالمين عن أبنائك يوم عاشوراء.. أين أنت عن أطفال الحسن وأطفال الحسين...

(لاحظ هنا أن الخطيب أخذ يوظّف قدراته الفنية والتصويرية والأدبية للانتقال إلى فقرة المصيبة).

نعم أين أنت يا نبي الله عن كربلاء، لا أعلم حالك إذا نظرت إلى عزيزك الحسين وهو يودّع طفله الصغير عبد الله الذي كان له من العمر ستة أشهر يودّعه وبناتك المفجوعات في الخيام ينظرن إليه باكيات نادبات (فإذا أدرك الخطيب أن الجو تهيأ للبكاء، وأن العواطف الحزينة قد أُذكيت وأن الدمع على وشك النزول من العيون، وصل إلى الصاعق الذي يفجّر ذلك، بإيراده مفردة المصيبة، لاحظ هنا اختلاط التخلّص بالمصيبة واندماجهما بشكل فني رقيق وانسيابي).

نعم خرج الحسين بطفله إلى القوم، وينقل بعض أرباب المقاتل عن حميد بن مسلم قوله: إن الحسين عوّدنا أنه إذا أراد أن يخرج للوعظ والخطابة برز على ناقة له، وإذا أراد أن يبرز للقتال برز على فرس له...

ولكن هذه المرة خرج الحسين ماشياً على قدميه وتحت ردائه شيء يظلله من حرارة الشمس..

يقول حميد بن مسلم: فحققنا النظر إليه وإذا به طفله الرضيع (إلى الآن كان الخطيب يعرض هذه المفردة المؤلمة بنبرات صوت هادئة وحزينة وتصويرية، ثم لا بد أن يفجّر البكاء والحزن بالشعر الرثائي بكل ألوانه التي يراها مناسبة لهذه المهمة).
 
ودعا الأقوام يا لله من خطب فظيع نبئوني أنا المذنب أم هذا الرضيع
لاحظوه فعليه شبه الهادي الشفيع لا يكن شافعكم خصماً لكم في النشأتين

فناداهم الحسين: "يا قوم قتلتم أخوتي فصبرت، قتلتم أبناء عمومتي فصبرت، قتلتم أصحابي فصبرت، ولم يبق عندي إلا طفلي الرضيع هذا، والله قد جفّ ثدي أمّه من اللبن، خذوه واسقوه بأيديكم ماءً".

فاختلف القوم، وبكى بعضهم فقال عمر بن سعد لحرملة بن كاهل: أقطع نزاع القوم، أرمه بسهم من كنانتك.. يقول حرمله: كان الطفل مغطىً ببرقع فجاءت ريح وأزاحت البرقع وإذا برقبة الطفل على عضد أبيه الحسين كأنها إبريق فضة فرميته بسهم ذبحته من الوريد إلى الوريد.

يقول الإمام الباقر عليه السلام: "لما أحس طفل جدي الحسين بحرارة السهم، أخرج يديه من القماط وجعل يرفرف على صدر أبيه الحسين كالطير المذبوح... وضع الحسين يده تحت منحر الطفل حتى امتلئت دماً ثم رمى بها إلى السماء":
 
تلكه الحسين دم الطفل بيده أشحاله اليقتل بحضنه أوليده
شاله وترس كفه من وريده ذبّه للسما وللكاع ما خرّ


ثم أن الحسين لم يرجع به إلى أمه الرباب فالأم لا تقوى أن ترى طفلها مذبوحاً ولكن رجع به إلى خيمة عمته زينب، فصرخت: واولداه وا ابن أخيّاه...
 
ما حال عمته وحال شجونها من نار أحشاها وماء جفونها
لما رأت خطفته كف منونها همّت تغسّله بماء عيونها


فتكفلت عنه الدماء بغسله

(وبعد هذا التخميس قد يجد الخطيب أن المجالس ما زال بحاجة إلى إشباع فيأتي ببيت أبو ذية من الشعر الشعبي):
 
عيوني تسحب العبرة بالمهاد على الناموا على الغبرة بلا أمهاد
طفلهم مالحك يمهد بالإمهاد وحزّت ركبته سهام المنية


(فإذا أراد الخطيب إنهاء المجلس فلا بد أن يأتي ببيت يُعرف ببيت التخلّص أي يتخلّص به من المجلس، أي ينهيه، أو ربما بيتين أو أكثر بل ربما تخميس، ولكن المهم أن يقرأ الشطر الأول من البيت الأخير بإحدى طرق النعي، بينما يترك الشطر الثاني وبذا يتم المجلس).
 
ومنعطف أهوى لتقبيل طفله فقبّل منه قبله السهم منحرا


* دروس في بناء المجلس الحسيني. نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. إعداد: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني.ص: 117-124. ط: شباط، 2003م- 1423هـ .